منوعات

دفنة مراتى

يوم دفنة مراتي كنا في منطقة اسمها “الديابة” في قلب الجبل, وده طبعا عشان عادات وتقاليد أهل زوجتي الغريبة اللي بتقول انها لازم تدفن مع أهلها في المقابر بتاعتهم, والمقابر دي كانت بينها وبين أقرب بلد حوالي ساعة مشي في قلب الجبل, شيلنا التابوت انا والمشيعين وانا قلبي مكسور ودخلنا في قلب الجبل لمدة ساعة كاملة لحد ما بدأت تظهر شواهد القبور من بعيد, والمقابر في البلد دي بالأخص كانت قديمة أوي ومبنية بالطوب اللبن القديم قوي..

ومش بس كدا, دي المقابر تقريبا معمولة زي الرسمة, يعني مش على هيئة حارات وشوارع وبس, المقابر مبنية على هيئة دايرة كبيرة وكل اللي في نص المقابر عبارة عن فراغ, اللي هو لو عدينا من بين مقبرتين هتلاقي المقابر حوليك من كل مكان تقريبا, مشهد غريب بس مكنتش واخد بالي منه بسبب قهرتي على زوجتي ودعواتي ليها, خاصةً انها ماتت وهي بتولد, دعيت ربنا يكون ده تكفير عن ذنوبها ودعيتلها بالجنة لأني كنت راضي عنها وعن كل حاجة عملتها عشاني..

وانتهت مراسم الدفن وسط المواساة من أهلها ليا وكنا في طريقنا للخروج, بس الغريب واللي لفت نظري ان كان فيه قبر في النص, لوحده تماما, ده الوحيد اللي مبني في نص دايرة القبور دي, والأغرب انه كان فوقه جرس كبير زي الأجراس اللي كانت موجودة في الكنايس, كان شكله غريب أوي ورغم حزني كان مُلفت للنظر, ورجعنا بيت أهل مراتي والناس حلفوا عليا أفضل عندهم يومين لحد ما أهدى خالص وبعدها أقدر أمشي..

وقعدت ليلتها مكسور, حزين, مش قادر أتخطى موتها بسهولة, حتى النوم رفض انه يزورني وفضلت تقريبا لحد الساعة 12 مش عارف أنام إطلاقا, وفين وفين لما أخيرا النوم زارني وقدرت أنام..

وف نومي شوفت نفسي واقف فوق المقبرة إياها, واقف وقدامي الجرس الضخم بهيئته المُخيفة, والضباب كان تقيل أوي وتقريبا مغطي كل حاجة حوليل, ولقيت نفسي بدون وعي بزق الجرس عشان يرن, وطلع منه صوت ضخم, قوي, مُخيف, صوت عامل زي زئير الوحوش, وفي لحظة بدأت أسمع أصوات كتير أوي, وكأن كل المقابر فيها حاجة بتتحرك, وقدام عيني كل القبور اللي على شكل الدايرة اتفتحت وخرج منها أموات, أموات بيتحركوا ناحية حاجة واحدة بس, ناحيتي..

كل ده والجرس عمال يتهز والصوت المُخيف بيخرج منه, وقبل ما يوصلولي شوفت عيون نارية لحيوان واقفة ورايا فوق القبر, وفي لحظة نط ناحيتي الحيوان ده وهو بيعوي عواء مُخيف أوي, واتنفضت من نومي في اللحظة دي وصحيت, كان قلبي بيدق وجسمي بيترعش, والعرق بينزل مني بطريقة غريبة, قمت من مكاني شربت مية وفضلت صاحي لحد الصبح مش عارف أنام مرة تانية..

وعدى يوم كامل وجه اليوم التاني, وقررت أزور مراتي في قبرها آخر زيارة قبل ما أمشي, كلمت ابن عمها وقالي مفيش مشكلة, واننا على الضهر هنتحرك أنا وهو ناحية المقابر, وفعلا اتغدينا واتحركنا ناحية المقابر, ورجعتلي الذكريات من تاني, ذكريات يوم الدفنة, وحسيت بنفس مشاعر الحزن اللي حسيت بيها يومها..

وبعد ساعة كاملة لقيت نفسي قدام دايرة ضخمة من المقابر الضخمة, نفس الشكل الغريب والغير مفهوم, فكرت أسأل الراجل اللي معايا, بس قررت أسكت لأن مش ده الوقت اللي ممكن نتناقش فيه عن موضوع زي ده..

وقفت قدام مقبرة مراتي وبدأت أتأثر أوي لما تخيلتها وهي مجرد جثة هامدة, حتى إن الدموع بدأت تنزل مني بدون وعي, ابن عمها فضل يواسيني كتير, ولقيت نفسي بطلب منه يسبني معاها شوية, نص ساعة بس, الراجل قدر الموقف وسابني خالص وقالي انه هيستناني على أول الجبل اللي برة المقابر..

وقفت أتكلم معاها وأدعيلها, اتكلمت كتير أوي, وحكيتلها أزاي انا مش عارف هعيش ازاي من غير وجودها, وفي النهاية قررت أتحرك عشان أرجع من المكان, بس قبل ما اتحرك لمحته, نفس القبر ونفس الجرس الغريب والغير مفهوم ده..

والأغرب إني لقيت نفسي بفتكر الحلم وبحس بانجذاب غريب أوي ناحية الجرس ده, قربت من القبر برهبة ووقفت قدامه أتأمله, وقتها بيجيلك إيحاء انك بتتأمل كائن حي مش مجرد بناء, كأن القبر بيكلمك, وبيتنفس, وبيتحرك, استحالة القبر ده يبقا مجرد مكان مبني وبس..

بصيت للجرس لقيت منقوش عليه نقوش غريبة أوي, نقوش مش مفهومة, وبدون وعي مني لقتني بطلع فوق القبر وبقف قدام الجرس, نفس المشهد اللي في الحلم إياه بحذافيره, قربت إيدي من الجرس وزقيته لقدام, وفي لحظة بدأ يتحرك ويطلع منه صوت, بس مكنش نفس الصوت اللي سمعته في الحلم, كان صوت جرس عادي..

وفي لحظة حسيت ان القبر اللي انا واقف عليه بيتحرك, بيتهز, وكأنه بينفعل, نزلت من على القبر من الخوف وفجأة لقيت الدنيا كلها ليل, ظلام دامس حوليا, كأن الثواني دول عدوا زي الساعات وفجأة بقيت في قلب المقابر بالليل..

حاولت أتحرك عشان أخرج من مكاني بس سمعت واحدة بتغني, بصيت لمصدر الصوت برعب لقيت واحدة ست لابسة لبس البدو, اللبس القديم ده وعمالة بتغني بصوت ملائكي, بس المشهد والموقف اللي انا فيه بيقولوا ان الغناء ده وراه كارثة..

وفي لحظة شوفت ذئب ضخم بيقرب من الست بهدوء تام, وأول ما لاحظت وجوده صرخت وطلعت فوق المقبرة اللي فجأة اتحولت لبيت, ولقتها على سطح البيت بتهز الجرس بخوف, بس الذئب قدر يطلع على السطح ويهجم عليها ويقطع لحمها تماما..

وبعد ما انتهى منها وانا واقف مش قادر أتحرك سمعت صوت أنفاس ورايا, بصيت بفزع لقتها نفس الست, بس كانت رقبتها ممزقة بالكامل والدم سايل منها, ووشها كله خرابيش ضخمة وعين من الاتنين تالفة تماما..

ومن ورايا لمحت باب القبر بيتفتح بعد ما رجع لقبر تاني, ولقتها بتشاور عشان أدخل في القبر, وقتها بس قدرت أصرخ, قدرت أجري بفزع من المكان, ومن ورايا سمعت خطوات سريعة أوي, كان الذئب إياه بيجري ورايا وعنيه بتطلع نار, صرخت بفزع الدنيا لحد ما خبطت في حاجة قدامي ووقعت, بصيت ناحيتها برعب لقيته ابن عم مراتي, وبقدرة قادر رجع المكان نهار تاني واختفت كل الحاجات المُريبة من المكان كله..

قعدت مكاني أنهج وقلبي عمال يدق بعنف, مكنتش قادر أنطق بنص كلمة, لقيته بيتكلم بخوق وقال:

– انت لمست الجرس ليه

بصتله وانا بنهج وعنيا جاحظة من الجنان اللي شوفته وقولتله:

– مكنتش أقصد والله مكنتش أقصد

لقيته قومني وخدني من المقابر كلها وهو مخضوض وخايف, حاولت أستفهم منه بس مكانش بينطق بنص كلمة لحد ما خرجنا من المكان كله, وبعدها بدأ يحكيلي حكاية غريبة أوي..

“قالي إن المكان ده زمان كان بيسكن فيه راجل من البدو ومراته, وكان بيرعى الغنم يوميا وبيسيب مراته طول النهار لوحدها, لحد ما رجع في مرة لقاها خايفة وقالت إن فيه ديب اتهجم عليها وكانت خايفة أوي, وكانت فيه كنسية قديمة أوي أوي في المكان عبارة عن أطلال, فقرر ياخد الجرس بتاعها ويحطه على سطح البيت, وقالها لو حصلها أي خطر تضرب الجرس وهيسمع الصوت من قلب الجبل ويرجع..

لحد ما في يوم كان نايم في الجبل مع الغنم بيريح شوية وهجم ديب على الست وهي قدام البيت, طلعت تجري وهي خايفة وضربت الجرس بس الراجل كان نايم ومسمعش, ولما رجع لقى جسم مراته عبارة عن أشلاء بعد ما الذئب قدر يطلعلها على السطح, وفي عُرف البدو إنه طالما مقدرش يحمي مراته فالعار هيفضل ملازمه طول عمره..

إلا لو عرف يحييها تاني, وعشان ميفضلش عايش بعار مراته راح لعرافة بدوية وطلب منها انها ترجع مراته مرة تانية, واديته كتاب بيسترجع الأموات على حسب كلامها, وخد الكتاب وبطريقة ما قرر يعمل السحر على الجرس, وهد البيت وعمل مقبرة حط فيها جثمان زوجته, وكان في اعتقاده انه لما يرن الجرس مراته هترجع مرة تانية..

بس كان لازم يرن الجرس في اليوم اللي ماتت فيه من كل شهر ولمدة 12 دورة قمرية, وكان كل ليلة بتوافق يوم موتها كان بيطلع يقرأ طلاسم ويرن الجرس لعلها ترجع, بس مرجعتش, هو اللي مات والبدو لقوا جثته فوق مقبرة مراته لونها اسود ومنفوخة بطريقة بشعة..

ودفنوه مع مراته وقفلوا عليه, ومع الأيام الناس بنوا قبورهم حولين القبر ده, بس محدش قدر يتجرأ ويعمل قبره ملاصق للقبر ده, خاصةً ان الجرس كل شهر وفي نفس يوم موت مرات الراجل بيرن وكل القرى بتسمع صوت الجرس, وبعد صوت الجرس بتبدأ الديابة تعوي لحد الصبح في المكان, عشان كدا اتسمى المكان بالديابة, وكمان في الليلة دي الست دي بتنزل تلف في القرية وكل الناس بيستخبوا في بيوتهم في الليلة دي, وانا لما حركت الجرس استدعيت حاجة, قرين الست اللي ماتت, وبما ان المكان ملعون بسحر فحلو إن الموضوع انتهى لحد كدا..

وعشان أهل القرية يتخلصوا من اللعنة دي استعانوا بشيخ القبائل الشيخ عيسى, وجه وقدر يحبس قرين الست في المقابر جمب الجرس, بس اشترطت على أهل القرية محدش منهم يتدفن برة البلد دي, لازم كله يتدفن هنا عشان الست دي متخرجش عليهم تاني, عشان كدا طلبوا مراتي تدفن عندهم..

حمدت ربنا على النجاة ورجعت مكاني اتحصنت مرة واتنين وانتهى الموضوع نوعا ما, وبعد فترة لما حكيت لشيخ الحكاية ابتسم وقال:

“لو آمن ابن آدم بالقدر لرأى أن النار لا تحرق”

بصتله بعدم فهم عشان يكمل ويقول:

“لو أبوك لقدر الله مات في حادثة قدام عنيك هتعمل ايه, أظن هتفضل تلوم في نفسك وهتفضل الباقي من عمرك ساخط على كل حاجة, في حين إنك لو مؤمن بالقدر خيره وشره كركن من أركان الإيمان هتعرف إن ده قدر, والقدر كله خير, يعني الخير للراجل ده في إن مراته تموت بالطريقة دي, هي يمكن اترحمت بالموتة دي, وهو كانت قدامه فرصة يصبر ويدخل الجنة من أوسع أبوابها, بس السخط, السخط على القدر بيخلي التفكير الشيطاني يتملك منك, لو الراجل آمن ان ده قدر ربنا كانت كل حاجة خلصت, بس هو آمن بعُرف العار أكتر من القدر, وعمل السحر ومات بالطريقة دي”

عشان كدا يابني من أركان الإيمان وعشان تبقا مؤمن صح لازم تؤمن بالقدر خيره وشره, يعني مهما يحصل ولو بيتك وأهلك اتحرقوا متزعلش, لأنك مؤمن, ولأنك بتؤمن بالقدر خيره وشره, وان اللي بيصبر على البلاء بيدخل الجنة بدون حساب..

بقلم: أحمد محمود شرقاوي

………………..

أركان الإيمان::

“أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره”

بقلم: أحمد محمود شرقاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
0

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل