
#الفصل_الأول
تحـركت الحَجة «أماني» بصعوبة تُكافح للوصول للدرج، وذلك بسبب وزنها الزائد فـ إنجاب خمسة ابناء شاقًا إلى درجة إظهار النتائج مُنعكسة على جسدها..
وصلت أمـام غرفةٍ ما وطرقت بابهـا بـخفة قائلة وهي تستعد لـفتح الباب
– ولا يا نـاصر..
فتحت البـاب ودلفت إلى تلك الغُرفة المُظلمة وهي تتابع
– يا ناصر..اصحى يا ناصر يخربيت دي اوضة مكمكمة على دماغك.
اقتربت من هذا الجسد المكوم على الفـراش وهزتهُ بـرفق هاتفة
– اصحى يا ناصر يا حبيبي ربنا يهديك قوم.
تململ على الفراش ولم يصدر منه سوى همهمة بسيطة تدل على خموله، فـ زفرت أماني بضيق وتوجهت صوب النافذة لتفتحها على مصرعيها فـ ينبعث ضوء الشمس للغرفة وينعكس على وجه «ناصر» النائم بـعمق مما جعله يزمجـر غاضبًا ويتمتم بصوتٍ أجش
– اقفلي الشباك يا ماما وسيبيني أنام.
هزت رأسها بـقلة حيلة وقالت بينما تتجه صوب الباب لتخرج
– لو صحيتلك أخوك وقولتله يجي يصحيك هتقوم جري.
انتفض «ناصر» من على الفراش وصـاح بـفزع
– صحيت والله العظيم صحيت.
أطلقت أماني ضحكة عالية وهي تسير في الرواق، طرقت باب غُرفة أخرى وفتحتها، لتشع منها انوار مُبهجة نظرًا للونها البينك الذي يدل على أنها غُرفة فتاة.
وجدتها تقف أمام المرآة تصفف خصلاتها فـ ابتسمت بحنان وقالت
– صباح الفُل على عيونك يا زينة البنات.
ضحكت بـملئ فاهها وهي تحتضن أماني قائلة
– صباحك ورد وياسمين يا ست الكُل.
ربتت أماني على كتفها بـ ود، فـ ابتعدت الفتاة ونظرت لوجهها ببسمة هاتفة
– ناصر صحي؟
تلاعبت أماني بحاجبيها قائلة بـعبث
– طبعًا، أول ما سمع اسم اخوكي قام وفَز من مكانه.
ضحكت الفتاة بـعلو وقالت
– ياسين له هيبة برده.
تنهدت أماني ورفعت يدها للسقف داعية لهم بكل حنان
– ربنا يديمكم لبعض وميحرمنيش من طلتكم عليا..
أجابت
– آمين يا رب.
ربتت أماني على خصلاتها وهتفت
– هروح اصحي اختك الكبيرة وانتي روحي لآسر برده..وسيبيلي ياسين هتلاقيه صحي لوحده.
أومأت لها بـطاعة وخرجا معًا خارج الغرفة كلًا إلى وجهته.
تجمعوا على طاولة الطعام ويترأسهم كبيـر العائلة
«ثروت المُرشدي»…
تنحنح بـخشونة قائلًا بـصوته الحاد
– ياسين فين يا أماني.
وضعت بـطبقه قطعة جبن وهي تقول
– نازل الوقتي يا حَج.
ضرب على الطاولة بـعنف هادرًا
– يبقى محدش يحط لُقمة في بُقه قبل ما الكل يتجمع!
تحدثت «براعم» وهي الأخت الأصغر
– ايوه يا بابا بس انا عندي امتحان لازم آكل بسرعة.
لانت نبرته ورمقها بـحنان قائلًا
– لا إذا كان كده ابدأي انتي يا حبيبتي.
نظر له ناصر بـفاه فاغـر وهو يميل بـرأسه غير مُصدقًا، لاحظه ثروت فـ قال بـخشونة
– ايه متبصليش كده، البت جعانة!
هتف ناصر
– دا على اساس اننا فطرنا من ساعة مثلًا؟ ما كلنا جعانين يا حج.
انبعث صوت رجولي أجش ذو بحة خاصة مُميزة من على الدرج
– السلام عليكم.
ردد الجميع بهمسٍ
– وعليكم السلام.
علىٰ صوت ثروت وهو يجيب
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تعالى يا ياسين افطر.
وقف «ياسين» أمامهم بـ حِلتهُ السوداء المُثيرة وقـال بـإقتضاب
– لأ افطروا انتوا.
صـاح ناصر بـإنفعال
– نعم يا أخويا، احنا متحنطين هنا على ما تنزل عشان نفطر!
نهرته أماني بـعنف
– نـاصر.
ابتسـم ياسين بجمود وأجـاب
– لو كنت عايز تبدأ من غيري كنت بدأت.
تدّخل ثروت في الوسط وأردف
– كلام ايه دا يا ياسين، انت عارف اننا لازم نتجمع كل يوم على الأقل مرة!
زفـر ياسين بـحنق وهتف
– تمام تمام..اللي انتوا شايفينه، سلام.
ألقى كلماته المُلخصة وارتدى نظارته الشمسية خارجًا من المنزل، بينما ربتت أماني على ذراع ثروت تواسيه بـ :
-معلش يا حَج، لسه جرحه مخفش برده.
تنهد ثروت بـتعب وتحدث
– عارف يا أماني، عارف.
هبط الصغير ركضًا على الدرج وهو يصيح بـحماس
– ماما يا ماما.
استدارت له أماني وقـالت بتعجب
– في ايه يا آسر؟
تحدث آسر بـحماسه الطفولي
– وداد قالتلي إن فيه عيد ميلاد انهاردا.
أومـأت أماني وابتسمت بـحنان قائلة
– ايوه يا حبيبي…عيد ميلاد أخـوك ياسين.
انتقل نظر آسر بين الوجوه باحثًا عن شقيقه، تنهـد بإحباط عندما اخبـرتهُ وداد التي جاءت من خلفه تحتضنه
– اكيـد مشي يا آسر
ربتت على كتفه وتابعت
– بس متقلقش، جهزله هديته وهيجي بليل تديهاله.
عادت البسمة تحتل شفتيه من جديد مُبتسمًا بتفاؤل..
جالسًا على مقعد مكتبهُ في محـل المجوهرات الخـاص به يُتابع الأوراق التي تضم الحسابات بـتركيز، لا يُمكن أن يُقَال انه يتركز بـتفكيره على الأوراق، بل هو شـارد في شيءٍ ما، اليـوم ذكرى ميلاده، في مثل هذا اليوم من سِتة سنوات فاجأتهُ بـأنها تحمل طفلهم في أحشائها، فرحته كانت لا توصف حينها، بل وبدأ في توزيع اللحوم على المساكين وتقبل دعواتهم بـصدرٍ رحب، ظل يرعاها هو وعائلته، منتظرين المولود الذي سـيأتي ليحمل اسم عائلة المُرشـدي؛ ثم يتفاجئ الجميع بـدخول عاصف من ياسين في يومٍ ما يجذبها من خُصلاتها وينهال عليها بالضر..ب المُبرح..ظنوا انه بلا سبب ولا يعلمون حجم الكار..ثة التي قامت بها تلك الزانية في حق ربها ودينها وزوجها، طردها من المنزل وألقى يمين الطلاق عليها باصقًا في وجهها بإشمئزاز مُتجاهلًا توسلاتها ورجاؤها، مُعلنًا بـذلك قدوم غيمة سوداء فوق رأسه كلما ذهب لمكانٍ ما، فـ من يومها وأصـبح لا يرحم، يزأر في وجه الجمـيع ويتعامل ببرود طاغي ناهيك عن جموده ولا مبالاته الزائدة عن الحد في كل ما يخص عائلته.
– ياسين بيه..ياسين بيه.
أجفـل من شروده على نداء أحد العاملين لهُ، فـ تركز ببصره عليه متسائلًا
– خير يا فتحي.
أجاب العامل ببسمة واسعة
– كل سنة وانت بخير يا باشا.
ابتسـم ياسين بـسمة ربما كانت باردة بعض الشيء
– وانت بخيـر يا فتحي.
وضع البيت الصغير المصنوع من الورق، كان مُنهارًا على نفسه وقـال
– ابني أحمـد عملك البيت دا وقالي اقولك كل سنة وانت طيب بداله.
اتسعت بسمته عندما تذكر ذلك الصغير في عُمر الستةِ سنوات، كـان قادم إلى والده في يومٍ فـ تقابل مع ياسين وتحدثا سويًا، يتذكر عن ظهر قلب لطافة الطفل وكم تمنى وقتها الحصول على طفلٍ مثله مُشاكس ومُـرح.
– ربنا يخليهولك يا فتحي، وصله سلامي.
أومأ فتحي بـ وِد
– يوصل يا باشا.
انصـرف فتحي وعاد ياسين لعمله يتابعه بـتركيز عن السابق..
جلست أماني بجانب الخادمة التي تساعدهم «يسرية» وساعدتها في تقشيـر البطاطس بوجه شارد وعينين غائمتين في ماضٍ مرير كان أثـره على ابنها البكـري سلبي…
تنهـدت بـإرهاق ونظرت لما تفعله، فـ تحدثت يسرية بـهدوءٍ تحاول التخفيف عن حدة مشاعر أماني المُضطربة
– معلش يا حَجة، كلنا لينا ماضي.
قـالت أماني بـحزن
– بس مش لدرجة انه يفضل فاكر ألم ماضي عدّى عليه ست سنين يا يسرية!
ضغطت يسرية على شفتيها بـحزن، وأجابت بعدها
– هينسى وهتبقى عال، ما انتي عارفة ان ياسين طول عمره قوي وبيعافر.
تابعت أماني بشرود
– ياسين بيعافر آه، بس اكتـر ما يكرهه ياسين الخيانة!
ابتسمت ساخرة وأكملت
– وتخيلي بقا خيانة من مراته اللي بيعشقها واللي كانت حامل منه.
– ربنا يقدم اللي فيه الخيـر يا حَجة، ربنا يسترها على اللي جاي، ومتظهرش تاني فجأة تقلب علينا المواجع.
تنهـدت أمـاني بـتعب مرددة
– آمين..آمين.
❀❀❀
وقف ناصر أسفل المبنى يُتابع عمل العمال و جدّهم بـحماس…
– باشمهندس ناصر.
استدار ناصـر سريعًا، لتقع عينيه على مصدر الصوت..
فتاة قصيرة القامة تمتلك خصلات بنية ليست بالناعمة تعكصها على هيئة كعكة، ترتدي نظارات كبيرة تأكل نصف وجهها تخبئ خلفها عينين خضراوتين، تمتلك شامة أسفل شفتيها من الجهة اليُسرى، دفعت نظاراتها لتلتصق بأنفها وقالت في خجل
– آآ…أنا عملت الرسومات اللي حضرك قولت عليها.
تحدث ناصـر بعملية
– تمام يا باشمهندسة دمشق..حطيهم هناك واستني جاي وراكي اهو.
تنحنحت بـحرج وهمست بما لم يسمعه، فـ قال بتعجب
– بتقولي حاجة؟
تحدثت بصوتٍ خاجل مبحوح
– عشق يا باشمهندس..مش دمشق.
اومأ بلا مبالاة مبتسمًا بمجاملة، فـ بادلته البسمة بأخرى متوترة واستدارت ذاهبة نحو مكانٍ أسفل الشمس القارصة يوضع به مقعدين وطاولة صغيرة، جلست على المقعد بـتوتر وبدأت تهز ركبتيها بإرتباك، فـ تلك هي مرتها الأولى في التدريب، ولا بد من وجودها بجانب «ناصر» كي تتعلم جيدًا ما جاءت لأجله، لم يكن أمامها خيارًا سوى التعامل مع رجل، هي من كانت تكره الرجال وتسبهم دومًا، تخجل فقط من نظرة تخترق جسدها أو تسخر من نظاراتها الكبيرة، أو ملابسها الفضفاضة التي لو خلعتها لأظهرت انوثتها التي تداريها من الأعين!
زفـرت حانقة وهي تعقد حاجبيها منزعجة من أشعة الشمس اللاذعة التي تكوي وجهها كيًا..
تحرك ناصـر إليها وهو يسير على الرمال بصعوبة حتى وصل لها فـ جلس على المقعد المقابل لها وابتسم بـسخرية بعض الشيء
– لازم تتعودي ع الشمس يا باشمهندسة، وإلا من أول مهمة ليكي هتقعي مننا.
غاظتها نبرته الساخرة المستترة تحت ستار الجدية، فـ بدت كـقطة شرسة مستعدة للإنقاض عليه بعد أن سخر منها وهذا اكثر ما تكرهه واكثر ما يعقدها من الرجـال..السخرية الدائمة، فـهي تراهم مجرد كائنات لزجة لا مجال لوجودهم على الأرض، وبـالإجبار يجب التعامل معهم والتغاضي عن كل تخيلاتها العدوانية تجاههم…
اردفـت بـحدة مفرطة تعجب لها
– نبدأ في الشغل.
اعتلى ثغره بسمة ساخرة بعدما تأكدت شكوكه تجاه تلك الفتاة غـ،ـريبة الأطوار، واومأ ببطء…
كـانت «وداد» جالسة أمـام الحاسوب الخاص بها تعمل بـكل ما تملكه من جهد لتُعلم تلك الفتاة الجالسة بجانبها تتركز ببصرها على ما تفعله، ليست لأنها مجتهدة فـحسب، بل لأن هذا تخصصها التي اختارته واحبته وقررت العمل به، فـ كانت النتيجة هي الإجتهاد والشهرة الواسعة التي نالتها في المكـان بأنها مذيعة مكافحة ولها مستقبلٍ باهر فيما بعد..
– آنسة وداد، الحلقة هتبتدي دلوقتي.
اومـأت ونظرت لمن بجانبها قائلة لها بإبتسامة
– شوفتي الموضوع سهل ازاي؟ مجرد بس ما تفتحي الفايل دا كل حاجة هتظهرلك.
تحـدثت الفتـاة بـإمتنان
– شكرًا جدًا يا آنسة وداد، بجد مش عارفة من غير حضرتك كنت عملت ايه.
ربتت وداد على كتفها مبتسمة بـود ونهضت دافعة المقعد الجرار واختفت عن الأنظـار بعدما دخلت غرفة التحضيـر، فـ وداد تعمل مذيعة ببرنامج سياسي يناقش القضايا السياسية الغامضة والشهيرة أو التي تجتاز شهرة واسعة بكلام عامة الشعب عنها، رغم تحذيرات ياسين لها بأن هذا المجال يسبب خطرًا لها إلا انها لم تلتفت لكلماته وأصرت على ما تفعله ساعية بـجِدّ مستعينة بالله عز وجل…
❀❀❀
طـارق..ياله من شابٍ وسيم ذو بسمة جذابة يستطيع من خلالها أن يأسر قلبها، تنهـدت «براعم» بـهيام وهي تُسلط نظرها على طـارق..هذا الشاب الوسيم الثري ذو الشعبية والسيط الواسع بـالجامعة، لكزتها صديقتها لعلها تستفيق من حب مراهقة -كما تراه- فـ طارق شاب مستهتر ومثلما يقولون «لعبي» يبدل النساء اكثـر مما يبدل سيارته، وهذا ما لا تراه براعم او تمثل انها لا تراه ولكنه واضح وضوح الشمس!
– يا بنتي بطلي بص عليه، غُضي البصر لا أحسن تتسخطي قرد وانتي قاعدة جنبي!
رمقتها براعم بـسخر..ية قائلة
– خليكي في حالك يا ست الشيخة.
هزت «سحر» رأسها بيأس من تصرفات صديقتها، فـ سهر فتاة مختمرة متقربة إلى الله حاملة للقرآن الكريم منذ كانت في المرحلة الابتدائية، ولم تتكاسل عن إستكمال الحفـظ وختمته اكثـر من ثلاث مرات، وهذا ما تفتخر به في حياتها…
– يا براعم صلي ع النبي كدا وخلي عندك دم، هنخش النـار راكبين تاكس الله يعمر بيتك غُضي البصـر.
معروفة بخفة ظلها وطريقتها تلك هي ما تجعل الجميع يصرف نظر عن فكرة ان المختمرات او المنقبات نساء متشددين يرون كل شيء محرم وغير لائق..
اجابتهـا براعم بـغيظ
– يا ستي انتي مالك هو انتي اللي هتتحاسبي ولا انا..اما انك خنيقة بصحيح.
لامتها سحر
– انا بوعيكي يا براعم بدل ما تقعي في المعصية والشيطان يوزك، انا ماليش في الجامعة غيرك..انتي الوحيدة اللي صاحبتي هنا وبحاول ما أخليش صاحبتي تقع في الغلط.
زفـرت براعم بـضيق وعاتبت نفسها بـعنف، ومن ثم أردفت
– انا مقصدش إهانة يا سحر بس انا بكره التحكمات.
هزت سحر رأسها نفيًا وقالت
– بس دي مش تحكمات يا براعم، دي توعية…
الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: «العينين تزنيان وزناهما النظر»، وغض البصر دا فريضة يا براعم، ومن سُبل دخول الجنة..
ابتسمت بـبشاشة وتابعت
– في جملة جميلة اوي قرأتها في مرة
«البصر باب القلب وطريق المؤمن إلى الجنة»…
تفتكري لما تبحلقي بعينك في الرجالة الرايحة والجاية هيبقى ايه موقفك لما تقابلي ربك ورسوله؟
تنهـدت براعم بـإحباط وبداخلها تتذمر، ماذا فعلت لكل تلك المحاضرة الطويلة والمملة التي قصتها عليها سهـر، ابتسمت بـود مصطنع واجابت
– اتعلمت يا سحر خلاص، شكرًا يا بيبي، يلا ندخل المحاضرة بقا؟
نهضت براعم وبعدها سحـر التي التقطت حقيبتها وهي تتمتم
– ربنا يهديكي يا براعم.
دخلت أماني غرفة آسر فـ وجدته مفترش الأرض يصنع شيئًا ما، فـ لم تكبح فضولها وسألته
– بتعمل ايه يا آسر؟
رفع نظره لها وتحدث بـحماس
– بعمل هدية لياسين..
ابتسمت أماني بـحنان وربتت على رأسـه هاتفة
– هتعمله ايه؟
ضيّق عينيه بـشك مردفًا
– لأ مش هقولك عشان انتي هتروحي تقوليله.
شهقت وأشـارت على نفسها قائلة
– انا يا آسر؟
سخـر – ايوه يا اختي انتي، روحي يا ماما الله لا يسيئك شوفي كنتي بتعملي ايه.
آسر..هذا الشاب البالغ المتنكر في هيئة طفل صغيـر لا يفقه شيئًا، ذكي لدرجة مُبهرة والجمـيع يعلم، وتفوقه في صفه الدراسي هو أكبـر دليل على ذلك، آسر يبلغ من العمر إحدى عشر عامًا بالمناسبة.
– طيب يا آسر الله يسامحك، هروح أحضـر الغدا وكدا كدا هعرف الهدية علفكرة.
أومـأ لها وتابع خروجها بـترقب، ومن ثم عاود عمله من جديد بكل حماسٍ ونشاط منتظرًا إعطاء هديته لشقيقه ليـسعد بها
❀❀❀
«في المسـاء»
حضـر الجميع من أعمالهم باكرًا، فـ اليوم هو يوم تاريخي لا يأتي سوى مرة كل عـام، ولا يحتفل به ياسين سوى مرة كل ثلاثة أعوام وهذا ما اعتادوا عليه!
انتهت التزينات وكعكة عيد الميلاد واجتمعت كل أفـراد العائلة وانتظـروا قدوم ياسين الذي دخل بعد لحظات المنزل متوقعًا ما سيحدث، فـ لم يتفاجئ البتة وكان رد فعله هادئًا ومثيرًا للأعصاب، اجتمعوا عند الكعكة على الطاولة وأسندت وداد والدها لينهض من على الأريكة، وقف بجانب أماني وفي وسطهم انحشرت «براعم» فـ ضحك ثروت وضمها إليه، ووقف آسر بجانب ياسين في محاولة منه لجعله يلتفت له ويهتم به، ولكن خابت آماله عندما رأى ياسين يُطفئ الشموع بـملل وكأنه طفل في الخامسة من عُمره!
اعطاه الجميع هداياه وكلًّا منهم يلقي تهنئته، حتى جاء موعد هدية آسر الذي قدمها لياسين بكل حماس طالبًا منه أن يفتحها الآن، فـ زفـر ياسين بـضيق وهو يفك رباطها وآسر يترقب ردة فعله في قلق، حتى تبدلت ملامح وجه ياسين فجـأةً وتجمدت أطـرافه وهو يُناظر لوحة صغيرة حولها إطارًا خشبيًا وبها رُسمت صورته!
أردف آسر بـحرج
– اتمنى يكون رسمي عجبك يا أبيه.
لاحت على شفتيه بسمة لطيفة، سرعان ما محاها سريعًا وهو يربت على خصلات الصغيـر قائلًا في هدوء
– حلوة يا آسر، شكرًا.
رغم ان تلك لم تكن الإجابة التي ينتظرها الصغيـر، إلا انه سعد لأنها اعجبته، وبـادر هو بـإحتضان ياسين مع أنه من المفترض ام يكون ياسين هو من يحتضنه!
تنهـد ياسين بـتعب وضمّ الصغير بـخفة
❀❀❀
في ظل ما كان الجميع جالسًا يتحادثون ويأكلون من الكعك ويرتشفون العصائـر، رنّ جرس الباب فـ انطلقت يسرية إليه وفتحته، ابتسمت شفتيها المطليتين بلون وردي خفيف وقـالت بصوتها الرقيق
– ازيك يا دادة يسرية.
تسمرت يسرية في مكانها وحملقت في مَن أمامها بـصدمة وخاصةً في يدها التي تتشبث بها فتاة صغيرة..
انحلت عُقدة لسانها واجابت بـإقتض.اب
– هو انتي.
اختفت بسمتها وحل محلها تعبير حزين رُسم على وجهها، ابتلعت غصتها وقـالت
– ياسين موجود؟
اومـأت يسرية بـحنق وأشـارت لها بالدخول، فـ خطت داخل المنزل ببطء منكسة الرأس لا تقوى على رفعها، كانت أول من رأتها هي براعم التي شهقت متفاجئة فـ التفت الجميع على أثـر تلك الشهقة…
اسودت عيني ياسين غضبًا، وانتفض واقفًا كـالملسوع وصاح غاضبًا
– انتي بتعملي ايه هنا؟
ابتسمت بـحزن – ازيك يا ياسين؟
عـاد يصيح
– بتعملي ايه هنا يا رحـاب انطقي؟
تنهـدت بـقهرة ونظـرت للصغيرة التي تتشبث في دميتها من جهة وبيد والدتها من جهة أخرى…
وأخيـرًا انحلت عقدة لسانها وبـادرت بـ
– جاية عشان أعرفك على بنتك!
شهق الجميع وانتفضوا واقفين بـصدمة، بينما هـدر ياسين منفعلًا
– بنت مين وزفت ايه، انتي من كتر قذارتك وعلاقاتك مش فاكرة دي بنت مين وجاية تلبسيهالي؟؟
التمعت الدموع في عينيها وتجـاهلت إهانتها اللاذعة ونظـرت للصغيرة مُبتسمة بـألم هاتفة
– سلميّ على بابا يا چويرية.
اختبئت الصغيرة خلف والدتها وهي تهز رأسهـا بنفي هامسة بـصوتٍ طفولي بريء ممزوج بـحدة العناد والتحدي
– مبسلمش على حد معرفوش!
#الفصل_الثاني
تنهـدت رحـاب وقالت
– من وقت ما انفصلنا وانا بربي چويرية لوحدي، بشتغل وبصرف عليها، يعلم ربنا يا ياسين ان عمري ما استغليت اسمك عشان اجيب فلوس لينا، طول عمري ماشية جنب الحيط، لحد ما اكتشفت من شهرين ان عندي كانسـر، قعدت أفكـر هعمل ايه وچويرية هيبقى ليها مين من بعدي، معنديش حد غيرك يا ياسين، متكسفتيش ارجوك!
صـاح ياسين منفعلًا
– ما تتكسفي ولا تتنيلي، البت دي مش بنتي وانتي عارفة دا كويس يا خاينة يا زانية.
صـاح ثروت بـحدة
– ياسين.
استدار له ياسين يُطالعه بـأعين حمراء من شدة الغضب
– عايز ايه من زفت.
توقف لبرهه، وعاد بنظره لـرحاب وتساءل
– انتي سجلتيها بـإسمي ازاي؟
ابتلعت رحـاب ريقها ونظرت لـثروت بتوتر، فـ ابتسم ياسين بـسخرية وعض على شفتيه في غيظ
وهنا أردف ثروت
– اسمعها يا ياسين..يمكن تكـو….
قاطعه بـحدة
– اسمع ايه؟ دي تخاريف، دي استحالة تكون بنتي.
وأشـار على الصغيرة المتشبثة في ملابس والدتها تُطالع انفعالات ياسين بـهدوء لا يليق بـطفلة في سنها، مما يؤكد صلتها بـياسين!
تحدثت رحـاب من بين دموعها الحزينة
– تقدر تعمل DNA.
صـاح مستنكرًا
– وانا هعمل دا ليه طالما انا متأكد انها مش بنتي.
قاطعه ثـروت بهدوءٍ
– ما تعمله يا ياسين هتخسر ايه يعني!
زفـر ياسين حانقًا، ومرر يديه في خصلاته يشد عليهما بغضب زائد، والجميع يتابع ردة فعله في توجس، تخصـر ياسين وهو يرمق الصغيرة بنظرات نافرة مزدرية، لـتبادله بنظرة بريئة عنيدة، وكـأنها تتحداه من إنكار أبوته لها!
في طريقهم إلى المشفى، كان لا بد من خروج احدهم مع ياسين ورحـاب، خوفًا من أن يتعرض لها ياسين فـهو معروف بـغضبه الجحيمي المُدمِر، فـ قرر نـاصر الذهاب معهم، وجلس في الأمام بينما جلست رحـاب وچويرية بـالخلف، قـاد ياسين السيـارة بسرعة جنونية مميتة، فـ صرخت به «چويرية» خوفًا
– ما تقلل السرعة احنا هنطير!!
كبت نـاصر ضحكته فـ رمقه ياسين بـحدة أخرسته، ورمق چويرية في مرآة السيـارة وبـعنادٍ زاد من سرعة السيارة الضعف، فـ حاوطت رحـاب ابنتها وملست على خُصلاتها تُهدئها..
وفـي غضون دقائق وصلوا للمشفى وترجلوا جميعهم، قبل أن يدخلا لم ينس ياسين أن يـرمق رحـاب بـإزدراء، لم تلحظه ولكن الصغيـرة لاحظت وبادلته
-بدلًا من والدتها- النظـرة بمثلها..حاقدة، ونافرة!
❀❀❀
يجلس ياسين بـركن من أركـان المنزل ينفث سيجارته في شراهة، وكأنه يفترسها، فـ ظهور طفلة له من العدم يعيقه على التركيز بأي شيء، يجعله غاضبًا منفعلًا لا يريد سوى تحطيم وجه تلك الخ..ائنة، لا يريد نسخة أخرى منها تمثل عليه وتكذب مثلها وتخون ثقته بها كما فعلت الحقيـرة!
رآها تنهض هي والطفلة قائلة بخجلٍ
– انا هروح، على ما التحاليل تظهر.
اعتـرض ثروت بـهدوءٍ
– لأ ابدًا، الدكتور قـال هتطلع بعد بكرا، استني معانا.
نظـرت لياسين بـحرج
– مالوش لزوم.
وأخيـرًا تحدثت أمانـي بعد صمتٍ
– اقعدي يا رحـاب، دي مهما كانت بنتنا برده، لحد ما نتأكد هتفضلي هنا..
نقلت نظرها لإبنها
– ولا انت ايه رأيك يا ياسين؟
قـال ببرود وهو ينهض بعدما دهس السيجارة في المطفأة
– اللي انتوا شايفينه، كده كده انا مش مهتم..
تركهم وتوجه صوب باب المنزل وفتحه منسحبًا من بينهم كما جـاء، بينما تنهدت رحـاب حزينة وأخفت رأس طفلتها داخل أحضانها..
❀❀❀
مر اليومين سريعًا، لم تتعامل العائلة كثيرًا مع رحـاب أو چويرية، حتى ياسين لم يأتي طوال هذين اليومين، لم تـأنس چويرية احدًا سوى آسر، قريبًا من عُمرها ويفهمها!
كــانت رحـاب تقف أمـام المرآة تمشط خصلاتها، فـ رأتهم يخرجون في يدها، تقع خصلاتها أثـر المرض، ويتألم صدرها من فكرة ترك صغيرتها وحيـدة!
جذبت الصغيـرة ملابسها وهي تقول
– مامي، مالك؟
أخفت رحـاب خصلاتها خلف ظهرها وابتسمت بـزيف للصغيرة مردفة
– ايه يا چوري يا حبيبتي..منزلتيش ليه؟
امتعضت ملامح الصغـيرة
– محبتش العيلة دي.
عقدت رحـاب حاجبيها
– ليه؟
رفعت منكبيها بعدم إكتراث
– مفككين، وانا مبحبش الناس المُفككة!
تحدثت رحـاب مُشجعة
– في ايدك تخليهم سوا يا چوري.
– وانتي؟
-آآ..انا ايه؟
– انتي هتمشي؟
التمعت الدموع في عينيها وقـالت
– هخلص شغلي وأجي علطول، مش هطول.
تنهـد چويرية بـحزن وقالت
– مامي انتي بتكدبي، انتي تعبانة..سمعتك بتتكلمي مع الدكتور، متحسسنيش اني طفلة ومش هفهم.
رفعت رحـاب رأسها للسقف تغمض عينيها بـوجع، لا تريد إظهار ألمها الفتَّاك أمام طفلتها الوحيـدة، استدارت چويرية وقالت بينما تستعد للخروج من الغرفة
– انا مش قلقانة، لأني واثقة انك هتنفذي وعدك..وترجعيلي تاني.
ما إن خرجت الصغيـرة حتى انفجرت رحـاب باكية، تعلم انها لن تستطيع تنفيذ وعدها للصغيـرة، فـ هي ضعيفة لن تقوى على مقاومة مرضها المؤلم، ستنساها طفلتهـا وسـيحبها ياسين، وسيصبح أبًا حنونًا لها..هي تثق بعودة ياسين القديم!
صمت مطبق يحيط بكل فرد من افراد العائلة المجتمعين حول طاولة الطعام، فقط أصوات اصطدام المعالق بالأطباق..
قطع الصمت حمحمة ثـروت الذي هتف بعدها بخشونة
– التحاليل هتطلع انهاردا باين؟
أردف ناصـر مُجيبًا
– ايوه يا حَج، بليل هروح اجيبها.
أومأ ونظر لأماني قائلًا
– ابقي اتصلي بإبنك خليه يجي، اما نشوف أخرة دلعه.
اومأت أمـاني بـطاعة، وأكمل الجميع إفطاره زائدين طفلة لطيفة ادخلت البهجة على البعض!
❀❀❀
كـانت عشق تقف بـجوار ناصر الذي يشرح لها قواعد البناء واصول العمل، هي تدّعي التركيز..ولكن في الواقع هي مشتتة كليًا، فـ أشعة الشمس الحارقة تلذع وجهها لذعًا، لا تريد إخباره حتى لا يسخ.ر منها كما اعتادت، اكتفت بالتمثيل أنها على ما يرام كلما نظر لها…
– هاتلنا اتنين لمون فريش يا صبحي معاكم.
قالها لأحد العمال الذي ذهب لجلب العصائر والطعام، وجلس الجميع للإستراحة، فـ اليوم شاقًا ويحتاجون للراحة كي يكملوا…
وفي حين ما هم جالسون تحدث نـاصر وهو يقضم لقمة من الشطيرة القابعة بين يديه
– بس مكنتش اعرف انك جامدة كدا.
نظرت له بحدة وهـدرت
– جامدة ازاي يعني؟
رفع كفيه بجانب رأسه بـإستسلام وقـال مبتسمًا
– مقصدش اللي فهمتيه والله، اقصد قوية يعني، محوقش فيكي الشمس ولا التعب!
أردفت بـجدية
– ما اصلي ما اتفحتش خمس سنين هندسة عشان في الآخر اقعد في بيتنا يا باشمهندس، الشغل محتاج تعب..وإلا ميبقاش شغل.
ارتفع حاجبيه مع إبتسامة مُعجبة بقوتها وإصرارها، بل ودفاعها عن حقوقها في مجتمعٍ لا يعترف بالمرأة من الأساس..
ضيّق عينيه يرمقها نظرات ثاقبة ثم قـال
– انتي عندك كام سنة يا عشق؟
نظرت للشطيرة وأخرجت نصفها من الغلاف الذي يحيط بها وقالت قبل أن تقضم لقمتها
– مع ان ملاكش الحق تسأل، بس هجاوب..انا 24 سنة.
تساءل
– عندك اخوات؟
هزت رأسها بإيماء وأجابت
– أخت واحدة
– وأبوكي؟
ألقت الشطيرة على الطاولة الصغيرة أمامهم وهدرت مستنكرة
– مش شايف ان أسئلتك كترت يا باشمهندش؟؟
تنحنح مُحرجًا وهتف بـ
– مقصدش..يا باشمهـ…
زفرت بملل تقاطعه بفظاظة
– ولّا تُقصد خلاص
تآكله الغيظ وتابعها بـحنق، وأكمل كلاهما طعامه…
❀❀❀
«في المساء»
كانت وداد تقرض أظافرها بتوتر قائلة
– هنقول لياسين ايه..نتيجة التحاليل طلعت وهو ممكن يتعصب!
تحدث ثروت بحسم
– اخلصي يا وداد كلميه..مش هنفضل بنخبي عليه كتير
ابتلعت لعابها، وأخرجت هاتفها تتصل بياسين، بينما الجميع يجلس أمامها مترقبًا ردة فعل ياسين الجحيمية!
التقط هاتفه وفتح الخط قائلًا بلهفة أخفاها ببراعة تحت قناع البرود
– النتيجة طلعت؟
هتفت بتوتر
– آ..ايوه..يعني..بـ..بص يا ياسـ…ين…هو
لم تتحمل أعصابه وهدر فيها بحنق
-اخلصي التحليل طلع ايه؟
ازدردت ريقها وألقت قنبلتها
– چويرية بنتك يا ياسين
انهت الجملة وأغلقت الخط بوجهه خوفًا من قنبلة الصراخ التي ستنفتح في وجهها إن فعلت…
أما ياسين…فـ توقف به الزمن عن الدوران….وتجمد جسده مطرحه!
#الفصل_الثالث
شدّ ياسين على خصلاته غاضبًا وهو يدور أمامهم حول نفسه بإهتياج..
وتوقف فجأةً يص.رخ بـعن.ف
– يعني ايه تطلع بنتي؟ ازاي!!
ردد ثروت ساخرًا
– معلش، هنقول لربنا هو مش عايزها تبقى بنته، رجعها تاني!
رمقه ياسين بـحنق وصـاح في زجهه
– انت السبب، انت اللي خبيت الموضوع دا عني رغم انك عارف.
هـدر ثروت غاضبًا من صياح ولده عليه بعد هذا العُمر
– اخرس يالا، مترفعش حِسك عليا تاني..
وقف ياسين أمامه وزمجـر بـإنفعال
– لما تكون انت سبب في دماري يبقى لازم ازعق يا ثروت بيه.
صاح ثروت معنفًا
– قولتلك وطي حِسك..
وعندما فتح ياسين فمه ليكمل الشجار، انطلقت صرخة وداد من الداخل وهي تأتي ركضًا قائلة
– رحاب اغم عليها!
انطلق الجميع راكضًا نحو المطبخ!
❀❀❀
موصول جسدها بأكمله بأجهزة المشفى الحديثة والمتعددة، وجهها شاحب تمامًا…
تحدثت الطبيبة
– لازم تفضل تحت العناية وتكمل جلسات الكيماوي اللي تقريبًا وقفتها بقالها كتيـر.
تساءل ياسين بوجه مق.تضب
– وحالتها هتبقى عاملة ازاي؟
اجـابت الطبيبة بجدية
– حاليًـا انا شايفة حالة متدهورة ولازمها رعاية، مقدرش احدد بعدين هتكون عاملة ازاي، الأقدار كلها في ايد ربنا.
أومأ ثروت مؤيدًا
– ونعم بالله.
تنفس ياسين بـإضطراب، ونكس رأسه عاقدًا حاجبيه بـإنز..عاج، لا بُد من التخلص من الكا..رثة التي ابتلته رحاب بها!
❀❀❀
– انت اتهفيت في مخك يا ولا ولا ايه؟ عايز تسييها في ملجأ!!
هـدر ثروت بتلك الكلمات وقد استطاع ياسين إثارة حنقه…
رفع ياسين منكبيه بـبرود وتحدث
– محدش فاضيلها، مين هيراعيها؟
تدخلت أماني وقالت
– انت تراعيها!
ابتسم متهكمًا واردف
– آه..أصلي فاضي للهانم!
زفـر ثروت بـإحباط وتحدث
– يا ابني دي بنتك! دي حتة منك..المفروض تكون أحن عليها من كدا!
انكمشت ملامحه بـملل وقـال
– دا اللي عندي، عاجبكم اهلًا وسهلًا، مش عاجبكم يبقى ودوها الملجأ..
هـزت أماني رأسها في قلة حيلة
– يا خسارة تربيتي فيك يا ابن بطني.
لم يعيرها اي اهتمام وانطلق صاعدًا لغرفته في الأعلى، بينما جلست أماني بجانب ثروت الذي يضع رأسه بين يديه ويهزها بـخيبة أمل، فـ هونت عليه بأن ربتت على كتفه قائلة
– ربنا هيحلها زي كل مرة يا حَج..
رفع رأسه للسماء داعيًا
– يـا رب.
❀❀❀
تضمها وداد إلى صدرها وتُربت على خصلاتها البنية المنسدلة على ظهرها في إنسيابية ونعومة..
تتعجب كثيرًا من حـال تلك الصغيـرة..
لم تبكِ ولم تصرخ ولم تنادي على والدتها..
وحيـن سألتها أجـابت بـ
«ماما بتكافح، وانا لازم أشجعها مش اعيط عليها!»
تفكيـر هذه الصغيرة يسبب عُقم في تفكيرها هي..
كيـف يمكن لصغيرة لم تتخطى السبع سنوات أن تُفكر بـطريقة مَن يبلغ الأربعين!
انفرج الباب بـعنف وطلّ منه ياسين الذي صـاح في الصغيرة منذ دخل
– اسمعي يا بت انتي، انتي لا بنتي ولا اعرفك اصلًا، هيلمولك هدومك ويرموكي في دار الأيتام.
هـدرت وداد بـشراسة وهي تضم الصغيرة المُرتجفة لـصدرها
– ايه الكلام اللي بتقوله دا يا ياسين..انت مُدرك انت بتقول ايه؟ دي بنتك!
صـاح بإنفعال جلي
– لا بنتي ولا اعرفها، دي واحدة بنت حـرام اتولدت بسبب علاقات أمها القـذرة.
دخل نـاصر عند تلك الجملة، وتحدث بـهدوءٍ محاولًا إيقاف أخاه عن إنفعاله
– اهدى يا ياسين واعقِل كلامك، البنت صغيرة ومش فاهمة.
نـظر له ياسين بـغضب وصـاح بـصرامة
– صغيـرة كبيرة مش هتفضل في البيت دا ثانية واحدة.
انتفضت فـجاةً من بين احضان وداد، وقفت على الفراش وصـاحت بصوتها الذي سمعه لأول مرة
– جرا ايه يا عم الحاج، ما تصلي ع النبي كدا وخد وأدي معايا متحسسنيش انك توم كروز وكل البنات تحت رجلك!
توسعت عينيه مصدومًا، حقيقةً لم يكن وحده المصدوم، بل كان نـاصر يطالعها بـفاه فاغر و وداد ترمقها بـعدم تصديق
– آآ..انتي متأكدة انك طفلة ست سنين؟
نـظرت لـناصر وتخصرت قائلة بـسخر..ية
– مشبهش ولا مشبهش؟
ابتلع لعابه متوجسًا، بينما صـدح صوت ياسين صـارخًا وهو يشير عليها
– شوفتوا..عشان اقولكم..دي مش بنتي، شايف بتتكلم ازاي، طب شايف حاطة ايدها في وسطها زي الرقصات ازاي؟
قـالت وداد ساخرة
– متستهبلش يا ياسين..البت شبهك خالص!
تنحنح بـحرج، ومن ثم عاد لغضبه يـقول بـسخط
– مش موضوعنا، خرجوا البت دي من البيت فورًا.
– چويرية مش هتخرج من هنا يا ياسين.
كان هذا كلام والده الذي دخل الغرفة يستند على عُكازِه…
فـ ازداد غضب ياسين الذي تحدث بنبرتهُ المخيفة
– يعني ايه؟
هتف ثروت بـحزم
– يعني محدش هيقدر يهوبلها، والبنت دي من الوقتي مسؤليتك انت يا ياسين، ومحدش فينا هيتدخل في تربيتها..واي حركة وحشة هتعملها معاها..اعتبر نفسك برا العيلة تمامًا..والمرادي هتكون انت اللي ولا ابني..ولا اعرفك!
كور ياسين قبضته، وصك على أسنانه بـعنف حتى شعر نـاصر الذي يجاوره انها تكاد أن تتهشم من قوة ضغطه عليها…
والآن من الموجب أن يقبَّل ياسين بـالوضع الحالي..إجباريًّـا!
رنّ المنبه في محاولة منه لإيقاظ ياسين النـائم بعمق، انتفض بـفزع ونظر للمنبه وعلم ما هو هذا الصوت الذي تغلغل لأحلامه..فـ اغلقه بـغيظ وفرك وجهه ليزيل أثر النوم..
نهض من الفراش يزيح الغطاء عنه بـعنف، وارتدى نعله وتوجه بخطوات سريعة أشبه بالراكضة نحو الغرفة المجاورة له…
اقتحمها بدون طرق على الباب وهز “چويرية” النائمة كـالملائكة على الفراش، فـ تململت بـإنزعاج وهي تتمتم
– سيبيني يا ماما شوية.
هزها مرة أخرى بطريقة أشد عنفًا
– اصحي يا روح أمك الحضانة هتضيع عليكي.
نفخت بـحنق ودفنت وجهها في الوسادة، فـ شمر ياسين عن ساعديه والتقطها من ثيابها يمسكها بـقوة من الخلف يجرها معه ناحية المرحاض الخاص بغرفتها، أنزلها وأوقفها قسرًا وبدأ ينثر المـاء الغزير على وجهها حتى ان ملابسها البيتية تبللت….
جرها معه للخارج وألقاها على الفراش وتوجه صوب خزانتها ليُخرج ملابس الحضانة…
وبالفعل أخرجها وجذب الصغيرة التي عاودت النوم من جديد، جذب ملابسها العلوية قسرًا ليخلعها عنها وبدأ في إلباسها والصغيرة تتمرد بـإنزعاج…
حُشر وجهها في الجزء العلوي الخاص بملابس الحضانة فـ بدأت تزمجـر وقد شعرت بـالإختناق..
وكـان ياسين محتاسًا لا يدري ما يفعله، أنجده الله عندما استطاع ان يُخرج رأسها أخيـرًا..
انتهى وتوجه لحقيبتها يضع بها كل ما هو على المكتب الصغير الخاص بها…
وتوجه إليها جاذبًا اياها من يدها واليد الأخرى جذب بها حذائها حتى بدون أن يأتي بالجورب…
هبط بها للأسفل وقال
– اقعدي البسي الجزمة هروح اشوف يسرية جهزت الساندوتشات ولا لأ، ما هو يوم باين من أوله.
انطلق صوب المطبخ ليجد يسرية تقف خلف الرخامة تعد الشطائر، ليقول
– بسرعة يا يسرية الله يكرمك.
وضعتهم في صندوق طعام الصغيرة -اللانش بوكس-
بسرعة وأعطتهم لياسين الذي التقطهم وهَرول للصغيرة، وضع الشطائر في حقيبتها وألبسها لها ودفعها ناحية باب المنزل يلقيها أمامه هاتفًا بـحزم
– خليكي قاعدة هنا لحد ما الباص يجي.
وقبل أن تفتح فمها وتتحدث أغلق الباب في وجهها، فـ زفرت الصغيرة بـإحباط وجلست على درجات السلم الصغير واضعة يدها أسفل خدها تنتظر مجيء الأتوبيس وهي تملس على شعرها الذي لم يُكلف نفسه عناء تمشيطه لها! ترتجف من برودة الجو كـدجاجة مبللة، تصتك على أسنانها والبرودة تملكت منها!
وهنا تمنت چويرية أن تكون والدتها معها وبجانبها !!
❀❀❀
ألقى ياسين جسده على الفراش وأغلق جفونه وما هي إلا دقائق حتى ذهب في سُباتٍ عميـق…
❀❀❀
ضحكت وهي تحتض.ن إحدى الصغيرات وتدفعها نحو الداخل برفق، وجاء الآخر واشار على الورقة المعلقة بالحائط والمرسوم عليها يدين يتصافحان، فـ صافحته بنفس الطريقة وهي تبتسم في وجهه بـلُطف…طريقة مناسبة للتعامل مع أطفال يدخلون مكانًا جديدًا للتو!
وكـانت الأخيـرة هي چويرية التي فركت عينيها بنعاس وكـادت تدخل دون أن تختار شيئًا فـ اوقفتها المُعلمة بـتعجب قائلة
– انتي عاملة كدا ليه؟ شعرك مش متسرح ليه وهدومك مكرمشة!
تنهـدت الصغيرة بـيأس ونظرت لها بـبراءة، قبل أن تنكس رأسها خزيًا وصمتت بحزن!
❀❀❀
اندفعت وداد من الباب تصر.خ بياسين النائم
– ياسين..ياسين قوم..يا ياسين.
تململ منزعجًا وتأفف حانقًا
– فيه ايه ع الصبح.
لغزته في كتفه قائلة
– اتصلوا من حضانة چويرية وعايزين حد من أهلها ضروري.
اندس تحت الغطاء وتحدث
– ابقي روحي انتي.
دفعته في كتفه صائحة بحنق
– هي بنتي ولا بنتك، قوم لا أحسن يكون جرالها حاجة!
تأفف حانقًا وصـاح بغضب جلي
– يووووه بقا، ما تولع ولا تتنيل انا عايز انام.
جذبت الغطاء من عليه هادرة بـحزم
– قوم يا ياسين شوف البت، يلااااا.
❀❀❀
ترجلت براعم من سيارتها واغلقتها بالمفتاح إلكترونيًا، عدّلت من وضع نظارتها الشمسية وتوجهت للداخل، وفي طريقها اصطدمت بـأحدهم، فـ رفعت رأسها بغيظ وكادت تصرخ به ولكن إعتذاره فاجئها
– انا آسف جدًا
عقدت حاجبيها بـإستغراب متسائلة عن هوية هذا الشاب فارع الطول، الذي ولأول مرة تراه في الجامعة!
ابتسمت في وجهه بتهذيب واردفت
– مفيش مشكلة
هز رأسه بـإيماء وعدّل من نظارته الطبية وتحرك صوب الداخل، في حين بقت براعم متعجبة! سرعان ما هزت رأسها تنفض أفكار معتوهة وتعمقت في الدخول للجامعة…
ترجل ياسين من سيارته وهو يزفر حانقًا، توجه نحو باب الدخول للحضانة ومنه سأل احدهم عن مكتب المديرة، وبالفعل توجه نحو مكتبها ودخل من الباب المفتوح متحدثًا بجمود
– مساء الخير
التفتت إليه الفتاة الجالسة أمام مكتب المديرة، والتي لم تكن سوى مُعلمة چويرية، نهضت وقـالت في جدية مُفرطة
– حضرتك والد چويرية؟
تحدث بحدة
– لأ
عقدت حاجبيها بتعجب، فـ زفر محبطًا واومـأ مُجبرًا، وهنا اومأت المُعلمة وتحدثت معه بـعنف وإندفاع
– حضرتك تقدر تقولي ايه الحالة المزرية اللي چوري جات بيها انهاردا دي!
رفع حاجبه متحديًـا وقاحتها واردف
– حالة ايه مش فاهم؟
– البنت شعرها منكوش وهدومها مكسرة، انت متأكد انك أب؟ فين مامتها؟
تحدث ببرود
– في المستشفى
انزوى غضبها جانبًا واردفت بـقلقٍ
– ليه مالها؟
هـدر فيها ياسين بع..نف
– ميخصكيش علفكرة!
– انت إنسان همجي واسلوبك عدواني! استحالة البنت تعرف تتأقلم معاك!
أشاح بيده
– يا شيخة اتنيلي.
شهقت بـعنف وصـاحت بإهتياج
– انت قليل الأدب
رمقها بـغضبٍ جامح وصـاح فيها بصوتٍ جهوري
– مين دا اللي قليل الأدب يا انثى البرص انتي!
اشـارت على نفسها بـصد..مة
– انا انثى البرص؟
ربع يديه أمامه وتحدث بـجمود
– اها..
تـابعت صراخها تلك المرة بـإنفعال
– لااااا انت زودتها اوي يا حضرت!
صدرت منه ضحكة سـاخرة واردف في إستهزاء
– وانتي نقصتيها يا أبلة.
خبطت المديرة بكفيها على المكتب وهي تهـدر
– بس خلاص، اتفضل يا أستاذ ياسين اقعد، وانتي يا روان، بطلي الدبش اللي بترميه دا.
نفخت “روان” خديها بـحنق، واضطرت مجبرة الجلوس في هدوءٍ مزيف، بينما جلس ياسين أمامها يرمقها بحاجب مرفوع وعينين تُطلقان أسهم حادة…
شبكت المديرة يديها أمامها على المكتب وقـالت
– امسحها فيا يا أستاذ ياسين، روان دبش شوية بس.
قـال بتهكم
– شوية!!!
صـاحت روان فيه
– قصدك ايه؟
اوقفتها المديرة بـحدة
– روان!
استكانت روان ظاهريًا، بينما داخلها كانت تود الإنقاض على هذا المتعجرف وخرمشة وجهه الوسيم بأظافرها!
– ايوه مش فاهم، وهي مالها البت جاية منكوشة ولا عريانة حتى!
كـادت المديرة أن تجيبه ولكن روان انفجرت فيه صارخة
– يرضيك بنتك تقعد مع زمايلها اللي لابسين هدوم نضيفة وشعرهم مهندم بلبسها وشعرها دا؟
اومـأ بهدوءٍ
– آه يرضيني!
توسعت عينيها بـصدمة من وقاحته المُفرطة والتي تسبب لها نيران شديدة الحرارة تموج داخل صدرها!
قاطعت “رجاء” المديرة شجار كان سيُستأنف للتو بـقولها
– يا أستاذ ياسين مينفعش دا يبقى منظر البنت في أول يوم حضانة ليها، خاصةً ان هي أول مرة تيجي الحضانة هنا والمكان مش هيكون مألوف بالنسبالها، والحقيقة انا مشوفتش اي حماس على وشها زي باقي الأطفال! هو انتوا بتعذ.بوها؟
قالت جملتها الأخيرة بـهمس…
فـ أجاب ياسين مرددًا
– يعني مشكلتكم في لبسها؟
تحدثت روان
– آه.
نـظر لها ياسين بـحنق واردف
– انتي مال أمك انتي حد وجهلك كلام؟
تنحنحت “رجاء” بـحرج وقـالت
– انت كدا بتغلط فيا يا أستاذ ياسين!
رفع حاجبه بـد..هشة وقـال بثبات
– انتي أمها؟
اومـأت رجاء فـ تحدث ياسين ببرودٍ أثار غيظها أكثـر
– نصيحة مني ابقي ربيّ بنتك، لا أحسن يزقلوها بالطوب ببجاحتها دي.
اشارت روان على نفسها
– بقا انا اللي بجحة يا جحش؟
هـدر في وجهها كـأسدٍ شرس
– ايوه يا اختي بجحة وستين بجحة كمان، دا ايه المصايب اللي بتتحدف علينا دي.
تمتم بتلك الكلمات وهو يهم بالإنصراف، وقبل أن يخرج التفت وقال لرجاء بتهذيب
– معلش يا مدام، هآخد البنت معايا.
اومأت له رجاء وهي تبتسم في وجهه بلطف، فـ استدار برأسه ناحية روان، وقبل أن يذهب أخرج لسانه لها بحركة صبيانية مشاكسة جعلت الدماء تفور في جسدها، كم توّد الفتّك بهذا الرجل البربري!!
#الفصل_الرابع
ألقاها فـ تلقتها أماني داخل أحضا..نها تخفيها عن ياسين الغا..ضب الذي صـر..خ فيها بـقسو..ة
– انتي عايزة ايه يا بت انتي بالظبط!
تحدثت وداد مدافعة عن الصغيـرة
– هي عملت ايه بس يا ياسين
صـاح منفعلًا
– لا عملت ولا أعمل، البت دي مش هتقعد في البيت دا ثانية واحدة..معدتش طا..يقها
تحدثت أماني بـحدة
– ياسين، البنت دي شايلة اسم عيلة المرشدي، ومش من الاصول نرميها في الشارع!
ابتسم بـتهكم وقـال
– عيلة المرشدي طول عمرها مُفككة، فـ متجوش تعملوا فيها عيلة كبيرة ومترابطة وانتوا هتموتوا وتنهشوا في بعض
لم تعلم ما دخل ما تقوله في ما يقول! لا بد وأن ابنها يمقت العائلة كثيـرًا، فـما فعله والده به ليس هينًا!
ملست على خصلات الصغيـرة ونظرت لوداد قائلة بهدوءٍ
– خدي چوري لأوضتها يا وداد…
اومأت وداد والتقطت كف الصغيرة وتحركت بها نحو الأعلى، بينما زفـر ياسين بـحنق وقـالت أماني بـوِد
– تعالي نتكلم شوية يا حبيبي
ظهرت ملامح الرفض على وجهه جليًا، فـ توسلته بعينيها قبل لسانها، وبـقلة حيلة انساق خلفها صوب غرفتها هي ووالده
جلست بجانبه على الأريكة بالغرفة، وتحدثت بصوتها الحاني
– لحد امتى هتفضل قاسي ع البت كدا؟ حرام عليك يا ياسين، دي بنتك..حتة منك!
غمغم بـرفض
– استحالة اقبلها
مالت برأسها في خزي وقالت
– مش يمكن لما تقبلها، تلاقيها الملجأ اللي مقدرتش تلاقيه فينا؟ يمكن تكون هي الشخص اللي يشاركك كل حاجة انت مرضتش تشاركها معانا؟
كـاد يعترض على حديثها فـ تابعت في حزم
– رفضك وبُعدك عننا معروف سببه، اللي مش معروف بقا ليه بتبعد عن أخواتك اللي ملهمش اي ذنب في اللي أبوك عمله؟ والأهم ليه بتبعد عن البنت اللي نزلتلك من السما نجدة ليك؟
قـال بإقتضاب
– مفيش سبب
وبكل صراحة العالم، وبجرأة أخفتها سنواتٍ
– انت كداب يا ياسين، ايوه كداب، انت أناني مبتفكرش إلا في نفسك، زعلان من أبوك عشان أجبرك تشتغل شغلانة انت مش عايزها؟ أجبرك تسيب جامعتك اللي دخلتها بطلوع الروح عشان تمسكله محلاته؟ طب إخواتك ذنبهم ايه؟ ذنب براعم البريئة اللي بتحاول تقرب من أخوها بأي شكل دي ايه؟ ذنب آسر اللي بيدور على أخوه القديم دا ايه؟ ذنب ناصر اللي بيدور على سند ليه ايه؟ ذنب وداد ايه؟ ذنب البنت البريئة اللي كل اللي تعرفه عن الحياة انها كلمة ايه؟ ذنبي انا..ايه يا ياسين؟
تهدجت أنفاسها بسبب كثرة الحديث المُر، كـالعلقم قابض المذاق عليها، سببًا في قطع أنفاسها عنها كما قُطعِت روحها عنها بعد إبتعاد أبنائها عن بعضهم البعض
– قوم يا ياسين، قوم وإلحق الدنيا قبل ما تخرب، قوم يا ابني، إخواتك محتاجينلك، بنتك محتاجالك!
وتلك كانت اللحظة الفارقة في حياة ياسين، وكـأنه ينتظر دفعها له على مواجهة المزيد، وكـأن كلمة والدته هي الدواء الذي حارب الداء المُتسبب فيه والده، لطالما كانت الحض..ن الدافئ له ولأخواته، دائمة..صامدة..قوية..مُحاربة، تقاوم الصعاب وتواجه بشراسة كل من تسول له نفسه بأن يؤذي أبنائها!
❀❀❀
انتهى دوام براعم وســارت مع سحر للخارج تتحدث معها في مواضيعٍ شتى، ظلت تضحك معها وتتسامر واندمجت حتى انها نسيت إلقاء بصرها على هذا الأحمق “طارق”، يبدو انها قد ملت من تجاهله لها فـ قررت الإنصراف عن الحملقة به!
خرجا من بوابة الجامعة وودعت براعم سحر التي قالت لها
– طب تعالي اوصلك وسيبي عربيتك، دا أخويا هيوصلنا…
وأشارت على سيارة في الجهة الأخرى، ولكن براعم رفضت مبتسمة في ود
– مرة تانية يا سحور، معلش يا حبيبتي لازم امشي حالًا، يلا سلام…
تنهـدت سحر بـإحباط وهزت رأسها موافقة، فـ تركتها براعم وذهبت، بينما مرت هي الجهة الأخرى ووصلت للسيارة وركبتها قائلة
– صبح صبح يا عم فيرو
أغلقت الباب فـ اصطدمت بيده تلتصق برأسها وهو يقول بمشاكسة صبيانية بحتة
– صبّح يا زُئردة
فركت رأسها ممتعضة بـغض.ب مصطنع
– ايه الغشومية دي يا فِراس الله..
ابتسم ساخرًا وهو يعدّل نظارته في حركة معتادة
– عشان تبطلي تقولي فيرو دي تاني، يا بت اتلمي انا اخوكي الكبير!
استطاع تمييز ضحكتها الساخرة من تحت نقابها والتي بعدها قالت
– طب سوق على مهلك سوق…
هز رأسه بـقلة حيلة وهو يضحك..
فـ عاودت سؤاله
– عملت ايه في أول يوم معيد في الجامعة بتاعتنا بقا؟ حبيتها؟
أومـأت وتركيزه منصب على الطريق أمامه
– ايوه، يعني مش زي ما كنت فاكرها بس حلوة..
لوت سحر شفتيها في سخرية لاذعة وقالت
– اش اش اش، من امتى وانت بتتنك كدا يا سي فيرو؟
رمقها بطرف عينه وتحدث
– بت..انا لو لطشتك بكف ايدي على وشك هتلزقي زي البرص في باب العربية..فـ اتلمي بدل ما ألمك..
زفرت حانقة وهي تتمتم بسخط
– يوه هو كل يوم بقا…
«فـي المسـاء»
– مساء الخيـر، طل.قني!
امتعضت ملامحه وقـال
– يا ستير يا رب، طل.اق كدا ع الريق؟
صرخت فيه بـإندفاع
– انا مبهزرش يا عصام، طل.قني بقولك
زفـر حانقًا وتـابع
– يا بنتي اهدي بس، أطل.قك ليه انتي مش مكلماني الصبح وقايلالي انك مستنياني أرجع بخير وعملالي مفاجأة؟
ابتسمت بـسماجة
– ايوه ما هي دي المفاجأة، طلقني
ضرب كفيه ببعضهما
– لا حول ولا قوة إلا بالله، انتي عبيطة يا بنتي؟
شهقت بعنف وهـدرت بإنفعال
– عبيطة؟ آه قول بقا انك معدتش طايقني وانك شوفتلك شوفة تانية في لندن، ما أكيد هناك المُزز على قفا مين يشيل
تنهـد بـهيام وأردف
– الحقيقة..فيه كتير
لكزته في صدره بقوة قائلة بحنق
– اتلم!
انفجر ضاحكًـا والتقط كفها مُقبّلًا إياه بـحب وقال
– انتي عارفة اني مبشوفش غيرك اصلًا
ردت في تهكم
– ليه؟ اتعميت!
نفض كفها وأنتفض واقفًا وقال في ضيق
– انا غاير من وشك، دا انتي بت تسدي النِفس
تخطاها وتوجه ناحية المطبخ لأماني، فـ هدرت من خلفه بعلو
– بكرا تجيلي حافي عشان ارجع معاك البيت يا معفن..
هبطت چويرية من الأعلى ببطء، تُقدم قدم وتبطئ الآخرى، ولكن ما باليد حيلة..إضطراب بطنها والزقازق الصادرة منها جعلتها تهبط مجبرة، لم تعتاد على العيش بلا طعام!
وقفت على عتبة المطبخ تتابع أماني التي ترص طعامًا على الصنية، وما إن التفتت حتى اختلست الصغيرة الصنية وحملتها بصعوبة، وركضت بها خلف الدرج ووضعتها أرضًا وتربعت تُعطي ظهرها للدرج وبدأت تأكل بـنهم…
– صباح الريحة الحلوة يا أحلـ…..ايييه داااا الأكل فين يا ولية؟؟
صـاح بها عصام عندما وجد الطاولة خالية من الطعام..فـ استدارت أماني سريعًا بفزع، نظرت للطاولة بعفوية ولم تجد شيء، فـ قالت مُدافعة
– والله يا ابني كانت هنا!
ابتسم متهكمًا وقال
– لأ بصي، الكلام دا ميدخلش عليا، اطلعي بالأكل يا حَجة متخلنيش أعملها معاكي
عنفته بـحدة
– اتلم يا ولا
ربع يديه بعبوس وزم شفتيه حانقًا
– يبقا اتفضلي هاتيلي أكلي وانا هتلم، بدل ما والله أكلك انتي!
دخلت براعم من باب المنزل المفتوح فقد كانت تجلس بالحديقة الخلفية للمنزل ودخلت عندما شعرت بالعطش، في نفس الوقت الذي كان ياسين يهبط فيه وآسر بجانبه يبحث عن چويرية التي أختفت فجأةً أثناء لعبهم سويًا…
اصطدم الثلاثة في طريقهم للمطبخ بـچويرية الجالسة أسفل الدرج تلتهم الطعام في جوعٍ شديد، شهقت أماني التي خرجت للتو وهي وعصام يبحثون عن صنية الطعام، وجحظت أعين براعم من هذا المشهد المُحزن! أما ياسين فـ تسمر مكانه بصدمة يحملق فيها بعدم تصديق، ربما رقّ قلبه ولو مثقال ذرةٍ لتلك الصغيـرة الشبيهة به!
توقفت عن الأكل واستدارت لهم لتجدهم متجمهرين خلفها ويطالعونها في شفقة، حاولت إبتلاع الطعام الذي حُشِر في فمها ولكنها لم تستطع، إذ توقف في حلقها فـ سعلت بـقوة، وكان أول من اندفع..هو ياسين!
التقط كفها الصغير بين كفيه الغليظين بهدوءٍ، وربت على ظهرها بـقوة بعض الشيء، جاءته وداد بكوب ماء فـ التقطه وأسند الصغيرة لترتشفه رويدًا،
زالت الغصة..وزال الحاجز..واحتضن الأب كف الإبنة..وسـار بها إلى طريق الحنان..!
تنهـدت أماني بسعادة وهي ترى إبنها قد بدأ يتقبل وجود قطعة منه، بينما ارتفع جانب شفاه ثروت ببسمة هادئة رزينة، أمـا وداد وبراعم قد ناظرا بعضهما البعض بإبتسامة سعيدة..
آسر المشاكس الذي همس لـناصر بشقاوة
– عقبال ما نشوفك ماسك ايد بنتك
تغضن حاجبي ناصر بـإنزعاج وهدر به
– اتلم يا مقصوف الرقبة
وكان عصام وكأن على رأسه الطير، هو فقط أراد طعامه! لماذا كل هذه الدراما!!!
– يعني انا الوقتي هآكل ايه؟
قالها بتساؤل وحيرة وسط سعادة الجميع!
❀❀❀
انتهى ياسين من غسل يدين الصغيرة وبدّل لها ثيابها بهدوءٍ، أما هي فـرغم قوتها الظاهرية إلا انها طفلة تخشى عقاب هذا القاسي متحجر القلب…
انتهى وجلس على الفراش، فـ هبطت الصغيرة من وقفتها على الفراش جالسة بجانبه، كان مظهرها يوحي بأنها ابنته بالفعل، فـ الشبه يُذهل المشاهد..
تنهـد بـتعب، فـ تنهدت بإرهاق..لعب في خصلاته لا يدري كيف يبدأ الهُدنة معها، فـ لعبت هي الأخرى بخصلاتها في حيرة كيف تبرر له انها كانت جائعة..
وبين هو وهي تحدثا في الوقت ذاته
– أنا…..
أشـارت له بالحديث قائلة
– الكبير الأول
فـ تنفس بعمق وقـال
– ممكن نتصالح؟
ابتسمت ببلاهة ونظرت له بعدم فهم، فـ عاود القول
– نعمل هُدنة يعني من غير خناقات وكدا
ضيّقت عينيها بـ شك، فـ تابع بحزم
– متبصليش كدا، عاجبك ولا لأ؟
تنهـدت بعمق وردّت
– والله..موعدكش
عقد حاجبيه بتعجب
– ليه بقا إن شاء الله؟
– انا مثلًا واحدة بتموت في المقالب، مقدرش أقعد من غير ما أعفرت حد جنبي، يعني المقالب مطلوبة في علاقتنا
هـدر بصدمة من كلماتها التي تشي بكبر سنها
– علاقة مين يا طفلة يا مهزقة!
رفعت حاجبها بتحذير
– حسن ملافظك يا ياسين
جحظت عينيه بصدمة وردد
– ياسين؟
تخصرت وقالت ساخرة
– اومال أقولك يا عمو؟
قـال بـجدية
– يا بابا مثلًا؟
هزت رأسها بنفي قاطع
– لااا بابا دي لأ، عمو أفضل علفكرة
– بس انا أبوكي!
زمت شفتيها بإستنكار
– كلاااام
ابتسم بعدم تصديق ورمقها بتعجب هاتفًا
– انتي متأكدة انك طفلة ست سنين؟
تأتأت مُكذبة إياه
– تؤ، مش طفلة لأ
هز رأسه بقلة حيلة وضحك لبرهه، ومن ثم عاد بنظره لتلك العابثة وما إن وقعت انظاره على ملامحها التي تشبهه إلى حد كبير حتى قال
– تآكلي آيس كريم ولا شوكلاته؟
أشـارت بإصبعيها السبابة والوسطى تخبره بهما “الإثنين” وإبتسامة عابثة ترتسم على محياها!
#الفصل_الخامس
هبط ياسين من سيارته وسـار ببطء ناحية الباب الآخر لها يفتح بابها برفق، فـ تدلدت قدميها الصغيرتين من السيارة وهبطت بصعوبة وهي تُعدِّل من حقيبة ظهرها، أغلق ياسين الباب ببطء وسـار بجانبها صوب الحضانة، وبغتةً أقتحم كفها كفه كما اقتحمت حياته، وقبضت عليه حتى يأخذها للجهة الأخرى ويمرون من السيارات القادمة والذاهبة، سـارت رعشة غريبة بـجسده، وكأنها بلمستها داوت جِراح قلبه التي لم يلتئِمها مرور الأيام أو السنوات…
تنهـدت محبطًا وقبض على يدها الصغيرة يمر بها للجهة الأخرى، مرت هي أولًا من باب الحضانة وما زالت قابضة على يده بـلُطفٍ، سار خلفها وكأنها هي من تسوقه نحو الأمام..هذا بالفعل ما كان يحدث!
ألتقت بـ “روان” التي ابتسمت في وجهها بـترحاب وحبور، والتقطت يدها من يد ياسين الذي كان متمسكًا بها بـشدة، كان يأبى ترك يدها…
وقبل أن تذهب روان رمقت ياسين بنظرة نافرة كارهة لاحظها ياسين فـ ابتسم ساخرًا، وأخرج لسانه لها يُذكرها بما فعله بها سابقًا..
قبل أن تدخل چويرية لمبنى الحضانة، استدارت لياسين ورفعت يدها الحُرة تلوح لها بيدها والإبتسامة ملئت وجهها..
لا يدري لماذا رفع يده ولوح لها، ولا لماذا رقّ قلبه وشعر بنبضاته تزداد، ولا لماذا ارتسمت بسمة هادئة خالية من الشوائب التي تُعكر صفو ذهنه على شفتيه!
فـلقد استطاع لُطفها إزالة جموده واستطاعت بسمتها أن تُعيد نبضات قلبه بـالحُب!
❀❀❀
فرك نـاصر عينيه بـتعب، فـهو منذ الصباح وهو منكب على تلك الأوراق الخاصة بمشروعٍ جديد، فـ بعد الإنتهاء من البناء بالأمس أخذ العمال قسطًا من الراحة وبقى هو يخطط للمشروع القادم…
فوجئ بـ “عشق” تدخل عليه بدون سابق انذار وفي يدها كوبين من القهوة الساخنة، وبـمرح لم يعتاده منها قالت
– صباح الخير يا باشمهندس، أكمل دخول ولا هتطردني؟
عقد حاجبيه بـتعجب من تغيرها المُفاجيء، وأومـأ لها فـ دخلت ووضعت كوبه أمامه بـحرص، وجلس أمامه على المقعد ترتشف من القهوة قبل أم تقول
– قولت أجي أفكر معاك في المشروع الجديد..
ابتسم بـتعجب وأردف
– كتّر خيرك يا باشمهندسة
ألقت نظرها على الأوراق بـفضول هاتفة
– قوليّ بقا خليني أساعدك
واندمجا سريعًـا في عملهما بجدية مُفرِطة وعملية شديدة
❀❀❀
سـحر تلك الرفيقة المُخلصة، التي تسعى فقط لإصلاح صديقتها العزيزة، لم يكن لديهما محاضرات مهمة لذلك سرقتها سحـر بضع ساعات إلى منزلهم مستغلة عدم وجود شقيقها ووالدها، واقترحت على براعم أن تُجَرِب الحجاب عليها، ألتقطت طرحة من الذين كانت ترتديهم قديمًا قبل أن تنتقب وبندانة، وأجلست براعم أمام المرآة وبدأت تُلبسها الحجاب بدقة وتركيز وتضع الدبابيس برفق، حتى انتهت وابتسمت بـسعادة، ابتعدت عن المرآة التي كانت خلفها مباشرةً، فـ استطاعت براعم رؤية مظهرها الخلاب، ظلت تتأمل في ملامحها لدقائق لم تعلم عددها، رُسِمت بسمة رقيقة على شفتيها، ومررت يدها على الحجاب وكان قلبها ينتفض إعجابًا بمظهرها…
قطع تأملها إندفاع الباب فجأة والدخول العاصف لشابًا يصرخ بـ
– انتي يا اللي مشوفتيش ربع ساعة تربـ…..
تسمر “فراس” مكانه بـصدمة، ملامحها المألوفة كانت أول ما يجذب إنتباه، ناهيك عن الحجاب الرقيق الذي يضم رأسها، وكـانت أول كلمة تتردد على لسانه هي
– ما شاء الله تبارك الله
تنحنحت براعم خجلًا وقالت سحر بـحدة
– ما تغض البصر يا أخينا عيب كدا
انتبه لها فراس أخيرًا وتنحنح بحرج ينكس رأسه مستغفرًا ربه ومعتذرًا عدة مرات بـإرتباك..
سرعان ما استدار منصرفًا والخجل يتآكله..
تحدثت براعم بـتوتر
– هـ.. هو أخوكي؟
أومـأت سحر بعصبية وقالت
– ايوه هو، مش عارفة من امتى بيدخل من غير ما يخبط
تنحنحت براعم خجلًا وألتقطت حقيبتها بسرعة قائلة
– آآ..انا لازم امشي
استوقفتها سحر عند الباب وهتفت
– معلش يا براعم هو مكانش قصده
هزت رأسها بنفي وهتفت
– لأ عادي..عادي، سلام
تنهـدت سحر وتركتها تذهب، بينما خرجت براعم من المنزل بسرعة البرق حتى أنها لم تخلع الحجاب!
❀❀❀
– انا الحقيقة مش فاهم حاجة! يعني الوقتي البت دي بتاعت مين؟
صـاحت وداد فيه
– هي ايه اللي بتاعت مين يا عصام متجننيش، هي لعبة؟ قولتلك دي بنت ياسين
هرش فروته بحيرة
– هو انا غايب بقالي قد ايه؟
زفـرت وداد بـيأس، بينما نهضت أماني بملامح ممتعضة قائلة
– انا داخلة المطبخ، يا تآخدي جوزك وتمشوا يا تخليه يخرس، غباؤه لا يُطاق
ابتسم عصام ببلاهة وقال
– تسلمي يا حماتي
أشاحت بيدها في لامبالاة تتمتم بكلمات مبهمة، لا بُد وأنها تدعي عليهم!
لكزها عصام بذراع قائلًا في عبث
– ما تيجي
عقدت حاجبيها بتعجب متسائلة
– أجي فين؟
غمزها بمشاكسة
– تعالي نروح بيتنا نتلم على بعض نقول كلمتين حلوين، وحشتيني يا بت
أشارت له بإصبعها محذرة وهي تصيح بغضبٍ
– عصام ما تقولش يا بت وبطل قلة أدب بقا في ألفاظك دي!
اختفت بسمته العابثة وامتعضت ملامحه
– والله؟!
نهض من مكانه قائلًا ببطء
– وداد
غمغمت له غير مبالية، فـ قال
– انتي طالق يا حبيبتي
توسعت عينيها بـصدمة ورأته يتحرك صوب الباب يخرج منه في إنفعال، فـ إلتقطت حقيبتها والبالطو الخاص بها وهي تركض خلفه صارخة بـحنق
– عصام..عصام استنى، استنى يا غبي دي المرة التانية اللي تطلقني فيها، يخربيتك هنقف قصاد بعض في المحاكم
قالتها وهي تركض خلفه بخطوات غير متوازنة نظرًا لحذاءها ذو الكعب العالي التي ترتديه، فـ هي عادت من العمل للتو واصطدمت بزوجها الذي عاد من سفرٍ دام لشهور أمامها!
بـعد دقائق من خروجهم…
تسللت براعم للداخل وهي تسير على أطراف أصابعها، فـ استمعت في طريقها للأعلى شهقة آسر أخيها، ترجته بعينيه ألا يتحدث، فـ صرخ فجأةً بصدمة
– براااعم اتحجبت!
أغمضت عينيها تطبق عليهما بقوة، تعض على شفتيها بغيظٍ تود الفتّك بهذا الفتى في الحـال!
اقتربت منها والدتها فهي فقط من سمعت صراخ آسر، التمعت الفرحة في عينيها ونظرت لبراعم بإبتسامة سعيدة وهي تربت على رأسها وتملس على وجهها وتضمها إليها تارةً وتقبّلها تارةً، فـ حاولت براعم التحدث لتُسكتها أماني بزغرودة عالية انطلقت منها عالية متحشرجة، حمدًا لله لم يسمعها أحد؛ لأنه لم يكن أحد بالمنزل من الأساس، هدئتها براعم وشرحت لها ما حدث في منزل سـحر وإحراجها ونزولها دون أن تخلعه، فـ ابتسمت أماني بثقة وقالت
– مش هتقلعيه..طالما لبستيه صدقيني مش هتقدري تقلعيه
وها هي جالسة الآن بغرفتها أمام المرآة تنظر لشكلها الرائع، أعجبها شكلها، كما أُعجبت بما قالته سحر عن الحجاب وأهميته
«بعد مرور أسبوعين»
عدّل ناصر من أكمام بدلته وهو يهبط من الأعلى يصفر بإستمتاع، قابلته چويرية وبراعم اللتان كانا يضحكان سويًا وبيد كلًا منهما طبقًا أحدهم مليء بالفشار والآخر بالمقرمشات…
رفعت براعم حاجبها بتعجب وقـالت
– ايه دا انت رايح تخطب ولا ايه؟
ضحكت چويرية ساخرة منها قائلة
– يخطب ايه، دا رايح يشقط
أومـأت براعم تؤيدها، لحظاتٍ وتوقفت عن تحريك رأسها وناظرتها بصدمة
– يـإيه؟ يشقط؟ انتي متأكدة انك طفـ…
أكملت چويرية وهي تقلب عينيها بملل
– انك طفلة ست سنين، أيوه طفلة ست سنين عايزين ايه يعني مش فاهمة؟
تركتهم وصعدت ركضًا على الدرج بينما بقت براعم تنظر في أثرها بصدمة وناصر يضحك بإستمتاع على ملامحها المدهوشة!
ضربها بـخفة على رأسها وركض للخارج؛ فـ زمت شفتيها بـحنق وألتقطت قطعة شيبسي وضعتها في فمها تلوكها بقسوة..
❀❀❀
ركضت چويرية نحو ياسين الجالس على الأريكة يتابع التلفاز بإهتمام، ناولته الطبق وجلست بجانبه تتسلق الأريكة بصعوبة، تـابعت التلفاز بتركيز وهي تأكل معه من نفس الطبق، سرعان ما دخلت براعم بالمقرمشات وتشاركوهم سويًا وتابعوا الفيلم بـإهتمام وهم ملتحفين بـغطاء من الصوف يُدفئ أجسادهم من برودة الجو…سرعان ما خرج آسر من المرحاض وانضم معهم ببسمة سعيدة
❀❀❀
في منزل سحـر كانت جالسة على فراشها تتنهد كل ثانية والأخرى، فـ براعم لا تُجيبها منذ فترة سوى بكلماتٍ قليلة، لا تجيبها من الأساس! أيعقل أن يكون هذا الموقف الأخير هو السبب؟ فقط يشغل تفكيرها ما حدث مع صديقتها التي أختفت فجأةً ولم تعد تظهر!
دخل فراس عليها بعد أن طرق الباب، جلس أمامها وتحدث بـحرج
– لسه برده مش بتكلمك؟
صاحت فيه معنفة
– أبعد عني يا فراس انت السبب
أردف في محاولة منه لتبرير موقفه
– والله مكنتش أعرف! انا آسف يا سحر، انا غلطان انا عارف، وبعدين انا قولتلك اني مُعجب بيها وبأمر الله هروح أخطبها!
أشاحت ببصرها عنه بملامح مقتضبة، حاليًـا لا تريد إعتذارات واهية، تريد فقط الإطمئنان على صديقتها الحميمة…
نظرت له سريعًـا بعدما خطرت لها الفكرة وقـالت
– وديني بيتها
عقد حاجبيه بتعجب
– وانتي تعرفي عنوانها؟ ايه هنخطبها الوقتي؟
أنتفضت واقفة وتحركت صوب الخزانة قائلة بعجلة وهي تلتقط ثيابها
– طبعًـا دي صاحبتي، روح ألبس وسخن العربية
أومـأ لها في قلة حيلة وخرج من الغرفة..
بينما أغلقت هي الباب وأستعدت للذهاب لصديقتها..
❀❀❀
ضغط ناصر على المزمار بالسيارة فـ انطلق صوته يشق سكون الليل، لحظات وخرجت من البوابة فتاة ترتدي فستانًـا يلتمع وسط الظلام، أوصدت البوابة خلفها وأستدارت له تبتسم بـإتساع، رفعت طرف ثوبها لتستطيع السير ووقفت بجوار السيارة لتجده يهبط سريعًـا قبل أن تفتح الباب، ووقف أمامها مبتسمًا بإعجاب هاتفًـا
– جمال ودلال والله
نكست رأسها تبتسم في خجل، فتح لها باب السيارة فـ دخلت برفق وهدوء لها والإبتسامة لا تُفارق شفتيها، أغلق الباب وأستدار ليستقل مكان السائق ويجلس خلف المقود يُديره وينطلق بـالسيارة نحو مكانهم المنشود…
❀❀
رنّ الجرس وهرولت يسرية لتفتحه، لتصطدم بشابٍ يرتدي بذلة أنيقة وبجانبه صديقة لأماني تعلمها يسرية جيدًا، وفتاتين تؤأمتين ترتديان فستانين مشابهين لبعضهما، رفعت السيدة رأسها في عجرفة وقالت
– ناديلي أماني بسرعة يا يسرية
ودخلت جالسة هي وأبنائها وكأن البيت ملكهم!
❀❀❀
تجلس أماني أمام صديقتها التي جاءت للتو وبجانبها ابنها وتطلب منها خطبة إبنها لبراعم!
– والله يا أماني وماليكي عليا حلفان، الواد قالي انه معجب ببنتك وعايز يتجوزها مكدبتش خبر وجيت جري
ابتسمت أماني بإصطناع
– طبعًا طبعًا، بس مش واجب كنتي تقوليلي الأول قبل ما تيجي فجأة كدا؟
-خير البر عاجله يا أم ياسين
تنهدت أماني بإحباط ونظرت لثروت الجالس بجانبها لينقذها، فـ تحدث بخشونة
– اطلعي نادي بنتك يا أم ياسين
رمقته بعدم إستيعاب، وفي النهاية استسلمت ونهضت صاعدة للأعلى…
❀❀❀
لطمت براعم عدة مرات وهي تردد بحسرة
– يالهوي يالهوي اعمل ايه اعمل ايه، أخرتها اتجوز سامح المكرش!
زعق فيها ياسين
– اتهدي بقا خليني أفكر هننيل ايه
زمت شفتيها بحنق
– متزعقليش!
زفر بنفاذ صبر وتخصر يُفكر في شيءٍ يستطيع فعله…
قاطعت تفكيره چويرية التي تركت طبق الفشار ووضعته على ساق آسر وقالت وهي تنهض من على الأريكة
– انا عندي الحل
إبتسامتها الماكرة أربكت ياسين وجعلت براعم تتوجس مما ستفعله، وفي النهاية نظر كلًا من ياسين وبراعم لبعضهما بـتوجس خشيةً مما ستفعله الصغيرة الخبيثة!
رنّ الجرس ثانيةً فـ هرولت يسرية تنهج بتعب من المسافة وفتحته، لتطل منه سحر تبتسم أسفل نقابها قائلة
– السلام عليكم براعم هنا يا دادة؟
أومـأت لها يسرية وهي تنهج بتعب قائلة بتقطع
– متقدملها عريس
توسعت عين سحر وهتفت مصدومة
– ايه؟
وسريعًا استدارت عندما سمعت صوت باب السيارة يُغلق وأخيها يصعد الدرجات الأخيرة من الدرج وبيده الورود، وفي لحظة أوصدت الباب في وجهه قبل أن يدخل، ليتسمر فراس مكانه متعجبًا!
استدارت سحر ليسرية وقالت بعجلة وهي تتحرك للصعود لغرفة براعم
– متفتحيش يا دادة، اوعي تفتحي وإلا هنتسوح كلنا
❀❀❀
«في المطعم»
أعادت عشق خصلة متمردة خلف أذنها وقالت بخفوت
– كنت عايزني في ايه يا باشمهندس؟
ترك ناصر الشوكة والسكين وتنحنح يجلي صوته وقال
– بصي يا عشق، اسمحيلي اناديكي بإسمك يعني بدون ألقاب، أنا معجب جدًا بكفاحك ونضالك وطريقتك في التعامل مع الناس دا غير إجتهادك وتفوقك، ورغبتك في إثبات نفسك للكل، يعني برده والواحد بيكون محتاج لحد يفهمه ويـ..يعني يـ….
تنهد بإحباط وقال
– انا مش عارف انا بقول ايه بس…..
رفع نظره لها وتحدث بهدوءٍ
– عشق تتجوزيني؟
توسعت عينيها بـصدمة وعجز لسانها عن الرد، فـ توجس ناصر وأردف
– ايه مش عايزة؟
فُكت عُقدة لسانها عندما شعرت بتراجعه وقالت سريعًا
– لأ طبعًا، بس اتفاجأت!
تحدث بجدية
– بصي، أنا بحب أمشي دوغري، وانا الصراحة معجب بيكي، هنعمل خطوبة فترة نتعرف فيها على بعض، ويعني لو محصلش نصيب او كان فيه مشاكل وخلافات ممكن نفسخ الخطوبـ….
وقبل أن يُكمل كانت تلتقط السكين بسرعة البرق وتشهرها في وجهه هاتفة بـحدة
– نفسخ ايه يا عين أمك؟
نظر للسكين ببسمة بلهاء وتحدث مُهدئًـا إياها بـحذرٍ
– انا قولت لو!
أنزلت السكين وتحدثت بـصرامة
– كنت بحسب
تحدث عابثًا
– عنيفة اوي
ابتسمت بخجل ونكست رأسها فـ ضحك بخفوت!
#الفصل_السادس
أضطرت براعم مجبرة الهبوط لتقابلهم، ورفضت تمامًا تدّخل ياسين حتى لا يتهور ويخرب كل شيء، جلسوا قليلًا وسط تأفف براعم وغيظها ولم تنس بالطبع أن تعدّل حجابها التي أصرت أن ترتديه، بينما سحر تتابع من أعلى الدرج وتضرب بقبضتها على كفها بتوتر، متجاهلة تمامًا إتصالات شقيقها المستنكر من إغلاق الباب في وجهه وعدم فتحه حتى الآن!
وسط الجلسة هبطت چويرية ركضًا على الدرج تصيح بـ
– ماما ماما
أنتفض الجميع واقفًا وكانت مديحة وسامح ينظران للصغيرة بتعجب!
ارتمت چويرية في أحضان براعم تقول ببراءة
– ماما هو بابا هيجي امتى؟
توسعت عين مديحة وشهقت متفاجئِة، بينما رمقت أماني الصغيرة بصدمة وعجز لسانها عن الحديث، بينما تبتسم ثروت بهدوءٍ!
تحدي سامح مستنكرًا
– ماما؟ انتي متجوزة؟
كادت أماني تتحدث فـ جذبها ثروت يرمقها بنظرة حادة، وهو يشير برأسه على ياسين الذي يتلصص عليهم من أعلى الدرج، فـ توقعت أن يكون هو من أخبر الصغيرة أن تفعل ذلك!
تحدثت مديحة في غيظ
– صحيح الكلام دا يا أماني؟ البت متجوزة؟
لم تجيبها أماني وظلت صامتة ساكنة، فـ التقطت حقيبتها وقالت
– ردك وصل، يلا يا سامح، يلا يا بنات
تحركوا جهة الباب وفتحه سامح ليصطدم بوجه فراش الذي كان يبتسم في خبث قائلًا
– ما لسه بدري يا عريس الغفلة
قـال سامح بإنفعالٍ
– انت مين انت كمان؟
تحدث ساخرًا وهو ينظر لبراعم بـترقب
– انا جوز المدام إن شاء الله
لكزت مديحة ابنها في كتفه هاتفة
– يلا يا ساااامح
مروا بجانب فراس الذي كان يبتسم بسعادة ويهدر بعلو
– نورتونا وشرفتونا
دخل فراس المنزل وأوصد الباب خلفه، رمق براعم بنظرة غامضة لم تستطع تحديدها، سرعان ما رسم بسمة ودودة على شفتيه وتحدث بتهذيب
– أنا فراس، أخو سحر، محتاج أتكلم مع والد الآنسة براعم شوية من فضلكم
استند ثروت على يد الأريكة ونهض يستند على عكازه قائلًا
– اتفصل يا ابني في الصالون
وتحرك فراس مع ثروت للداخل، بينما ابتلعت براعم ريقها عدة مرات بوجس، ونظرت لوالدتها بـخوفٍ مستتر ونبضات قلبها تعلو رويدًا رويدًا!
ركضت چويرية ناحية ياسين بالأعلى ووقفت أمامه قائلة بفخر
– شوفت سلكت الموضوع ازاي؟ إيدك بقا على حلاوتي
رفع حاجبه بتعجب
– ايوه عايزة ايه يعني؟
– عايزة فلوس يا ياسين صحصح معايا
قبض على أذنها يقرصها بخفة هاتفًا من بين أسنانه
– بت لمي روحك، ياسين ايه دا انا أكبر منك
دبدبت على الأرض وصـاحت بتألم
– سيب ودني
تركها فـ فركت أذنها وأشهرت إصبعها أمامه وضيقت عينيها قائلة
– ربنا هيعاقبك على وجعي دا
ابتسم ساخرًا ودفعها من وجهها فـ تنحت جانبًا وهي تزفر بـحنق، تراه يهبط أمامها ببرود وكأنه لم يؤلمها منذ قليل!
ببطء ارتسمت بسمة ماكرة تعلو شفتيها، ثم استدارت راكضة!
غمغم ثروت بهدوءٍ
– عايز تتجوزها يعني؟
أومـأ فراس وهو يمسح حبيبات العرق المتكومة على جبينه بالمنديل الورقي، ومن ثم تحدث بتوتر
– شـ..شوفتها مرتين وأُعجبت بيها
رفع ثروت حاجبه وتحدث بخشونة
– مرتين وأعجبت بيها؟ تيجي ازاي دي؟
تنحنح وأردف
– ما هو أنا بقول نتخطب فترة وبعدين ربنا يحلها من عنده، ونكتب الكتاب فترة برده ولو لا قدر الله ما ارتاحتش نفركش يعني
شبّك ثروت أصابعه ببعضها وعاد بظهره للخلف قائلًا
– والله مقدرش أحدد، محتاجين رأيها الأول، ومعتقدش إن بعد اللي حصل دا هي هتوافق
سيطر الإحباط على معالم وجهه ولكن بعد كلمة ثروت تجدد الأمل من جديد
– هنسألها وإن شاء الله توافق
تنفس يُريح صدره من هم رفضها، يريد أن يبث عقله وقلبه أنها ستوافق، وفي القريب العاجل ستُصبح زوجته وحلاله
❀❀❀
دخل ناصر المنزل يصفر بإستمتاع والفرحة تملئ صدره بعد مقابلته بـعشق، وقف قبل أن يصعد للأعلى يرمق العائلة المتجمعة بالردهة في تعجب، وتساءل
– متجمعين عند النبي، فيه ايه؟
لم يجيبه أحد، حتى وداد الثرثارة لم تجيبه!
فـ تعجب أكثر وجلس بجانبهم يسند ذقنه بكفه مثلهم ويطالعهم، أما ياسين فـ انصرف من مدة وخرج يسير بالطرق بلا هدف، يرغب في الإختلاء بنفسه والتفكير جيدًا في موضوع “چويرية”..تلك الصغيرة التي أقتحمت حياته دون سابق إنذار وحطمت قوانينه…
رأى طيف أحدهم يركض من بعيد، فـ تغضن ما بين حاجبيه وركز بصره عليها…
رآها تركض تجاهه وتلتفت حول نفسها بـفزع، وفي ظل ما كانت غافلة تنظر خلفها اصطدمت به ولا إراديًا تمسك بذراعيها يسندها، رفعت بصرها لتستقر عليه، تنفست بإضطراب..
أما هو فـ عقد حاجبيه بتعجب وقال
– انتي!
ابتلعت لعابها بتوجس، واستمعت لصوت ذلك البغيض الذي كان يحدثها بألفاظٍ بشعة
– البت دي تلزمني يا زميلي
رفع حاجبه وعاود ببصره إليها، فـ همست برجاء
– ساعدني بالله عليك
زم شفتيه بعدم إكتراث، ونظر للبغيض قائلًا
– تعالى خُدها!
اقترب منهم وهو يبتسم بـشر، ويطالع “روان” بنظرات توحي بنيته السوداء، أما هي فـ كانت ترتجف كالدجاجة، مدّ يده ليجذبها ولكن أستوقفته يد ياسين التي امتدت وقبضت على يده، وقوله البارد
– انا قولت تعالى خدها، عارف هي ايه اللي هتاخدها؟
عقد البغيض حاجبيه بإستغراب، فـ استكمل ياسين ببسمة هادئة
– اقصد تآخد دي يا روح أمك
ختم جملته بلكمة وجّهها للشاب، أعادته عدة خطوات للخلف وهو يضع يده على عينيه يتأوه ألمًا، فـ استأنف ياسين
– قرب خليني اديك واحدة كمان!
صرخ الشاب بفزع واستدار راكضًا، بينما زفرت روان بإرتياح، واستدار لها ياسين يرمقها بنظرات جامدة صلبة!
❀❀❀
– اختفيتي فجأة ليه؟ اتكسفتي؟
نكست رأسها بخجل وأردفت
– اتكسفت انزل وأقلع الحجاب تاني! زي ما تقول لزق عليا ومقدرتش أقلعه ولا جالي قلب!
تنهـد فراس منهكًا وقال
– ومكنتيش بتردي على سحر ليه؟
فركت يديها المتعرقتين ببعضهما في توتر وقالت
– اتكسفت بقا من الموقف اياه
ابتسم بهدوءٍ وتحدث بتهذيب
– ويا ترى موافقة تكوني زوجة ليا؟
تلعثمت وهي تجيب
– يـ..عـ..بص هو…
قاطعها
– خدي وقتك، فكري براحتك أنا مش مستعجل، ولو مش موافقة أنا راضي باللي ربنا كاتبهولي!
زاغت عينيها مُسلطة بصرها على السجادة قائلة
– إن شاء الله
ازدادت دقات قلبها فجأةً عندما رأته ينهض، وقـال
– همشي الوقتي ولما تفكري…كلمي سحر قوليلها
أومـأت بتوتر ونكست رأسها ثانيةً، بينما خرج فراس من الغرفة المُطلة على الردهة والتي كان بابها مفتوحًا، فـ تنفست الصعداء وقد زال توترها وخجلها تمامًا!
❀❀❀
-نازلة السعادي تعملي ايه؟
هاجمته بعدوانية
– وانت مالك؟
رفع حاجبه متعجبًا من وقاحة تلك الفتاة!
– لأ ما هو لو مش ملاحظة انا لسه مخلصك من ايده الوقتي!
عضت على شِفتها السُفلية وقـالت بإرتباك
– مـ..مـعلش، انا آسفة بس….
صاح وهو يصفق بيده
– يا فرج الله، دي بتقول آسفة….الحمدلله..الحمدلله
تحدثت بحدة
– ليه حد قالك اني قليلة الذوق زيك؟
عض على شِفته بـتوعد وأردف وهو يقترب منها بمقدار خطوة
– بت انتي..انا لو كحيت في وشك كحة هتطيري، أقصري الشر واتلمي
زفـرت ساخطة، فـ بادر بالإكمال
– اخلصي نازلة السعادي ليه؟
تحدثت بإستسلام
– نزلت أجيب دوا لماما
– منين؟
هتفت وهي تشير على مكانٍ ما
– من الصيدلية اللي هناك دي
تنهـد قائلًا وهو يسير متجاهلها
– ورايا
دبدبت على الأرض بحنق واضطرت مُجبرة السير وراءهُ
فتحت “عشق” باب المنزل ودلفت إليه والإبتسامة لا تُفارق وجهها، ارتمت على الأريكة بجانب والدتها وتحدثت بسعادة
– مساء الفل على عيون رورو القمر
تبسمت “رجاء” بـحنان وناظرت إبنتها قائلة
– حمدلله ع السلامة يا عيوني
ربتت عشق على يدها قائلة
– الله يسلمك يا حبيبتي
التفتت حولها تبحث عن أحدهم وقالت متعجبة
– اومال روان فين؟
عاودت رجاء بنظرها للتلفاز تضع قطعة من اللب في فمها
– نزلت تجيب الدوا
أومـأت لها عشق ونهضت هاتفة
– هدخل اغيّر على ما روان تيجي وأجي اقولكم حاجة مهمة
هزت رجاء رأسها بلا مبالاة وسلطت نظرها على التلفاز تتابع الفيلم بإنتباه
❀❀❀
أعطاها الحقيبة البلاستيكية وهتف ببروده الطاغي
– امسكي الدوا اهو، الروشتة جوا في الكيس، يلا يا شاطرة جري ع البيت
استدار ليرحل فـ هتفت بغيظ دفين
– استنى خد الفلوس!
قلّب عينيه بملل وقـال بينما يتحرك للذهاب
– خليهملك اشتري بيهم شوكلاته ولا آيس كريم ولا حاجة
توسعت عينيها بدهشة من هدوءه، أو بالأحرى من سخريته الواضحة منها، منذ أن تعرفت عليه ولا ترى منه سوى الوقاحة فقط!
❀❀❀
– ايوه يعني ردك ايه الوقتي يا براعم؟
قالتها سحر عبر الهاتف..
أجابتها براعم التي تقرض أظافرها بإرتباك
– مش عارفة يا سحر، مش عارفة!
تنهـدت سحر وهتفت بصوتها الهادئ الذي يُريح براعم دومًا
– بصي اهدي كدا وصلي ع النبي وقومي صلي إستخارة..وإن شاء الله ربنا ييسرلك الحال
اومـأت براعم وأغلقت معها فورًا، حقيقةً…هي لا تعلم كيف تُصلي! لذا يلزمها إستعانة باليوتيوب!
❀❀❀
وقف ياسين في شرفة غرفته ينفث من سيجارته بشراهة، شاردًا في أحواله التي تغيرت منذ دخول تلك الصغيرة حياته!
وضعت المقعد الصغير التي جاءت تحمله بصعوبة ووقفت عليه، مدّت يدها والتقطت السيجارة تُلقيها في الشارع قائلة
– السجاير مُضرة
رمقها بنظرة غريبة وهتف
– صاحية ليه لحد الوقتي؟
رفعت منكبيها بلا مبالاة
– أجازة بكرا من الحضانة، قولت أجي أشوفك بتعمل ايه
ابتسم متهكمًا وأردف
– ليه فاكرة انك مراتي؟
هزت رأسها نفيًا وقالت
– تؤ تؤ، فاكرة نفسي بحاول أساعدك بدل ما نجيبك من المستشفى المرة الجاية
– انتي طالعة لمين كدا؟
ضحكت بطفولة
– طالعة لنفسي
ضحك بخفة وعاود النظر للسماء يتأملها
– تعرف يا ياسين..ماما كانت بتقولي ان اللي بيموت بيتحطله نجمة في السما
هـدر ياسين بعنف
– أمك دي….
بتر جملته عندما رأى نظرتها البريئة تجاهه، فـ تنهد يائسًا وأردف
– معرفش
زمت شفتيها بيأس وهتفت
– كان نفسي أعرف اوي
تحدث تلقائيًا
– اطلعي رائدة فضاء وانتي تعرفي
تحدثت بسعادة
– هو ممكن؟
اومـأ لها بتأكيد
– ممكن اوي
وابتسمت بحماس!
تحرك ياسين ليدخل وحملها يُنزلها أرضًا يقول بنبرة ناعسة
– خشي نامي يلا
تشبثت في يده قائلة
– ممكن أنام معاك؟
نظرتها البريئة وبشرتها الحليبية..خصلاتها الناعمة وطفولتها التي تُحرك غريزة الأبوة تجاهها، جعلته يوافق بلا تفكير!
❀❀❀
غمغمت روان بتفكير وهتفت بعدها
– قولتيلي اسمه ايه؟
أجابتها عشق ببسمة ماكرة
– مش هقولك
رفعت حاجبها بحدة وهتفت
– هو لعب عيال؟ ما تنطقي يا عشق!
هزت رأسها بنفي وقالت بإستفزاز
– تؤتؤ، ممكن أقولك حرف من إسمه
قلَّبت عينيها بـملل وأومـأت موافقة، فـ قالت عشق
– ألف مد
– وربنا؟
أومـأت عشق ببلاهة وهتفت
– ايوه..حرف من إسمه..موجود في النص كدا
لوت روان شفتيها بـحنق وهي تستعد للنهوض من على فراش شقيقتها
– وكسة توكسك انتي وهو
ارتدت خُفها وتوجهت للباب وقبل ان تفتحه استدارت وقالت
– علفكرة كدا كدا هعرف اسمه..ما هم جايين بكرا على حدّ قولك
لفت عشق خُصلة من شعرها على إصبعها وقالت
– وقتها بقا
زفـرت بضيق وخرجت من الغرفة صافعة الباب خلفها، فـ ارتمت عشق على الفراش تتنهد بحالمية
❀❀❀
أغلقت روان باب غرفتها وجلست على فراشها، لوهلة تذكرت ماضيهم..تذكرت والدها..من كان سببًا في عقدة شقيقتها وبُعدها عن كل ما هو ذكر حرصًا، ليأتي هذا المجهول ويغير نظرتها..وقريبًا سـتُخطب له، ولكن يا ترى..هل ستستطيع هي أو شقيقتها نسيان فعلة والدهم الشنيعة بحقهم وبحق والدتها بالأخص؟!
#الفصل_السابع_الأخير
دخلت أماني غرفة ياسين ببطء، الظلام يعم الغرفة، همست وهي تتقدم من الفراش
– ياسين..ياسين اصحى يا حبيبي
تقدمت أكثر فـ لاحظت تكوم جسدًا ما بين أحضانه، لحظات واستوعبت أن هذا الجسد..هو جسد الصغيرة چويرية!
بسمة حنونة ارتسمت على شفتيها وهي ترى إبنها يحاوط صغيرته بحماية، تنهدت وهي تمسح دمعة سقطت قسرًا على وجنتها..واستدارت تخرج من الغرفة، تاركة هذه اللوحة الفنية دون أن تحركها..حتى لا تمتزج الألون ويختفي المنظر البديع
❀❀❀
كان ناصر في قمة سعادته، فـ اليوم سيتقدم رسميًا لطلب عشق للزواج، لا يُصدق بتاتًا انه سيتزوج تلك الحمقاء التي كان يتوجس لأمرها!
ربتت وداد على كتفه وهتفت مشاكسة
– دا انت بتطير يا ولا، ايه الفرحة دي كلها
أمسكها من ذراعيها وظل يدور بها ببطء قائلًا في سعادة
– انا مش مصدق يا وداد..هتجوز أخيرًا..هتجوز وأتلم بقا
صدحت ضحكات براعم في الجوار وهي تضع طبق الطعام على الطاولة وتقول
– ما خلاص يا عم الشبح هو محدش غيرك بيتجوز يعني
رمقها بغيظ وهتف
– اخرسي انتي بـ سي فراس بتاعك دا، مش عارف عاجبه فيكي ايه
لكزته براعم بحنق وهي تتجه للمطبخ
– لِم نفسك يا بتاع عشق
قهقه ساخرًا، فـ ابتسمت براعم تهز رأسها بقلة حيلة، وفي طريقها صدح صوت وصول رسالة لها نصها:
(انا عازم نفسي انا والأسرة الكريمة عندكم بكرا، عشان نطلب ايدك، ودي معلومة..مش طلب)
ضحكت بخفوت، وكتبت رسالة نصها
(ومين قالك اني موافقة؟)
رفع حاجبه في الجهة الأخرى وكتب بإنفعال
(مش مستني رأيك)
ضحكت بعلو ضحكة تردد صداها في أرجاء القصر، وكتبت والسعادة تملئ قلبها قبل ملامح وجهها
(توكل على الله…هحتاج ايه غير زوج صالح وخلاص)
(ايه وخلاص دي ما تحسني ملافظك!)
(روح يا فراس الله لا يسيئك ورايا شغل)
رأت العلامتين الصح تتحول للون الأزرق فـ ادركت انه شاهد الرسالة، تعجبت كونه لم يجب..هل ذهب بالفعل؟
لم تكد تتخيل شيئًا إذ وجدت الهاتف يرنّ والشاشة تُضيء برقمه التي حفظته عن ظهر قلب من محادثته لها البارحة، فـ تبسمت برقة وفتحت الخط قائلة في إصطناع التساؤل
– السلام عليكم، مين معايا؟
– انا علامات الرفض اللي هتجري وراكي يوم القيامة
كبتت ضحكتها واستمعت لتزمره بإستمتاع
– بقا انا تقوليلي لسه موافقتش؟
عقدت حاجبيها بعبث هاتفة
– كنت بهزر..ايه مبتهزرش يا رمضان؟
ارتسمت بسمة هادئة على ثغره وقال
– لأ بهزر..بس هزاري أفضّل تشوفيه عملي لما نتجوز وتبقي حلالي
ابتسمت في خجل وتوردت وجنتيها، ليتابع هو بمشاكسة
– يعني كدا خلاص؟ أجيب أمي وابويا والبت سحر ونيجي نبل الشربات؟
صمتت وابتسمت في خجل ونكست رأسها تقبض على هاتفها بتوتر، فـ سمعت ضحكاته المرحة لتغلق الهاتف في وجهه بخجل، وضربات قلبها تزداد إضطرابًا…
تثائب ياسين بنعاس وهو يعتدل على الفراش، نظر حوله باحثًا عن الصغيرة فـ لم يجدها، يبدو أنها نهضت أولًا…
فرك عينيه واستعد للنهوض وبالفعل نهض وتوقف لبرهه يتمطع بكسل، وما كاد يتحرك حتى شعر بشيء لزج أسفل قدمه، وعندما حاول بقوة التحرك سقط على وجهه فـ تلطخ بسائلٍ أحمر كان موضوع بـجردل مائل على الأرض…
وعلى الفور زمجـر ياسين غاضبًا وعلم أن الأمر مقصودًا من تلك المشاكسة الصغيرة!
– چـويـــــــــريــــــــــــــة
لطمت على خديها وهرولت راكضة تجاه المرحاض وهي تراه يقترب منها بأعين تطلق شررًا ووجهه غارق بالسائل الأحمر…
هبط الدرج فـ تعرقل بخيط شفاف لم يره وكاد يسقط لكنه تماسك وفي ثانية كان هناك جردل آخر يسقط منه “ريش” أبيض اللون يتطاير في الجو ويلتصق بوجهه اللزج من الأساس فـ أصبح يشبه الدجاجة!
صك على أسنانه والغضب يتآكله..زمجـر كالأسد وهبط الدرج ركضًا وهو يصرخ بإسمها..
هرول الجميع على أثر صراخه متسائلين عن السبب، حسنًا..يبدو السبب واضحًا أمامهم تمام الوضوح خاصةً بمظهر ياسين المُضحك!
هرول ياسين تجاه المرحاض مخمنًا انها من الممكن أن تكون قد اختبأت هناك، وقبل أن يدلفه رآها تركض نحو الردهة التي يتجمع بها العائلة..فـ هرول خلفها…
اختبأت الصغيرة خلف أماني لذلك حاول ياسين الوصول لها وهو يصرخ بغيظ
– بتعملي فيا مقلب يا بت؟ بتستعبطيني!!
أخرجت رأسها من خلف أماني وقالت ببلاهة
– مش انا قولتلك مقدرش أعيش من غير مقالب؟ دا يكفي اني معملتهاش من أول ما جيت، لازم تتعود يا ياسو الموضوع كبير
زمجـر غاضبًا واستدار خلف والدته ليمسكها، فـ فرت هاربة منه وخرجت من باب المنزل وضحكاتها تصدح في المكان، وظلت تطوف وتركض بالحديقة الخاصة بالمنزل وهو يركض خلفها، وبلحظةٍ ودون أن يعلم ما حدث له تحول غضبه لمرح وبدأ يركض خلفها في نشاط، حتى أن الجميع تعجب، سرعان ما تبسموا وصدحت ضحكاتهم عندما رأوا ياسين يطرح الصغيرة أرضًا وينقض عليها يدغدغها بفمه في بطنها وهي تضحك بصخب مرح وتحاول إبعاده…
فـ انضم آسر لهم يحاول إنقاذ چويرية بمرح، فـ جذبه ياسين وبدأ يدغدغه هو الآخر وسط ضحكاتهم المرحة…
التمعت عين أماني بالدموع، ودعت الله في سرها أن يديم فرحة إبنها بإبنته بعد أن شعر أخيرًا بقيمتها الثمينة!
❀❀❀
(في المساء)
هبط ناصر من السيارة والعائلة كلها متجمعين حوله، نفخ صدره بحماس توجه لبوابة العمارة وصعد وخلفه عائلته…
دقتين على الباب وانفرج الباب وطلّت من خلفه رجاء تبتسم بترحاب وتتنحى جانبًا ليدخلوا…
وفي طريق ياسين للدخول لم يلحظ حتى من فتحت الباب فـ كان مهتمًا بـچويرية التي كانت تتشبث في كفه كأنه سيهرب منها!
جلسوا جميعًا وتحدثت رجاء
– ثواني هنادي عشق
أومـأ ناصر بسعادة، بينما عقد ياسين حاجبيه بتعجب، هذه السيدة مألوفة له!
كانت روان تحاول رؤية العريس المنتظر من خلف الستارة، فـ ضربتها والدتها على رأسها هاتفة بحنق
– بطلي بقا، روحي هاتي الشربات ودخليه على ما عشق تيجي بالجاتوه، يلا يا بت انجزي
دبدبت على الأرض بحنق وتوجهت للمطبخ، أما عشق فـ كانت في الغرفة تتآكل قلقًا، ترجو من الله ألا تكون قد تسرعت وأن يكون ناصر هو المناسب، وأنه لن يكون مثل والدها القاسي!
ربتت رجاء على كتفها بحنان عندما تيقنت ما تفكر به إبنتها، طمأنتها بـ
– متقلقيش يا عشق، مش كلهم زيه
ابتسمت عشق بإرتجاف، وارتعشت يديها بإرتباك، وتحركت مع والدتها للخارج والقلق يتآكلها
دخلت روان عليهم وهي تبتسم ببشاشة مُقدِمة الشربات، رفعت رأسها وهي تقدم الكوب الأخير لأحدهم والذي لم يكن سوى ياسين، لحظة صمت عمت المكان، فغرت روان فاهها وتذكرت فجأةً حديث شقيقتها
” ألف مد..دا حرف من إسمه!”
شهقت بخضة وارتعشت يديها فـ انسكب المشروب على ملابس ياسين الذي انتفض واقفًا يحاول نفضه من عليه، فـ توترت روان وجذبت بعض المحارم الورقية وحاولت إزالتهم …ولكن ما فعلته أنها زادت الطين بلة…
اختفت بسمة عشق ووالدتها اللتان كانتا في طريقهما للدخول عند رؤيتهم ما حدث، فـ تحدثت رجاء تُسعفهم
– خديه ع الحمام بسرعة يا روان
أومـأت روان سريعًا وأشارت له بالتقدم، فـ تحرك ورائها بهدوء….
– انت بتعمل ايه هنا؟
قالتها بحدة وهي تسير أمامه، فـ ابتسم بتهكم وصمت…
ليتآكلها الغيظ صمته القاتل لها، لوهله لم تستوعب أنه العريس المزعوم! حقًا ستقتله ومن ثم تقتل نفسها إن كان حدسها صحيح!
جزت على أسنانها وقالت بغيظ
– انت العريس صح؟
رفع حاجبه بتسلية وربع يديه أمامه قائلًا بإستفزاز
– ولو كنت أنا..هتعملي ايه يا أبلة؟
هـدرت بإنفعال
– رد عليا، انت العريس مش كدا؟
غمغم بتفكير لبرهة، ومن ثم قال وهو يمر داخلًا المرحاض قسرًا
– هسيبك لفضولك يآكلك كدا
دبدبت على الأرض بكعبها العالي، وعينيها تضيق بحنق!
ظلت تقضم أظافرها بقلق منتظرة خروجه لكي تفهم منه، سرعان ما سمعت أصوات زغاريد عالية فـ انعقد ما بين حاجبيها بتعجب وخرجت لتستكشف الأمر، لتتسع عينيها بصدمة عندما وجدت شقيقتها تُلبِس أحدهم خاتمًا، وتبتسم في خجل ممزوج بسعادتها…
لنكن صادقين..بالمعنى الحرفي كان فاهها يكاد يُلامس الأرض من قوو فتحها له!!!!
❀❀❀
بعد دقائـق…
خرجت الشرفة وهي ما زالت تكبت ضحكتها، سرعان ما انفجرت ضاحكة على هذا التفكير العقيم التي كانت تفكر به، لقد ظنت لوهلة أن ياسين هو العريس…
“حقًـا يالا حماقتكِ يا روان!”
هذا ما أخبرها به عقلها، فـ اتسعت بسمتها بشدة وشردت، وقبل أن تتعمق في شرودها دخل عليها ياسين وتنحنح ليخبرها بوجوده، فـ استدارت بإبتسامتها وهتفت بإحراج
– احم، سوري يا ياسو بقا..افتكرتك انت العريس
غمغم ياسين بكلماتٍ مبهمة، ومن ثم اقترب منها خطوتين وهو يضع يديه في جيبي بنطاله، هاتين الخطوتين اللتان تقدمهما كانا تقريبًا الحد الفاصل بينهما، ضيّق عينيه وهمس لها
– ولو كنت العريس..كنتي هتعملي ايه؟
سرحت في عينيه الجذابتان
– ها؟
ارتفع جانب شفتيه ببسمة صغيـرة
– شكلك واقعة يا أبلة
انتبهت على نفسها وهتفت بحدة
– ايه واقعة دي ما تحسن ملافظك يا بغل يا مـ….
كمم فمها وأردف بـجدية رافعًـا حاجبه بحذر
– قلة أدب وسفالة هديكي على وشك!
أنزل يده وابتعد عنها يقف بجوارها مستندًا بيده على السور بكل هدوء كما لو أنه لم يكمم فمها وكاد يخنقها الآن!
زفـرت بضيق واستدارت تقف بجانبه ناظرة للأمام بشرود، فـ قاطعها صوته
– والدتك حكتلنا جوا انكم بتكرهوا والدكم، هما جوا بيعرفوا السبب، اتمنى أنا اعرف السبب منك
تصنمت مكانها، وتجمدت يديها وجسدها ووجهها وتقريبًا كل ملامحها!
ابتلعت غصتها المريرة ونظرت له لبرهه تستشف الصدق من ملامحه حتى! سرعان ما وجدت ضالتها فـ تنهدت بـقوة وقصت معاناتها
– انا وعشق كنا صغيرين، كنا دايمًا بنشوف الراجل دا بيضرب أمي على أتفه الأسباب، سواء بقا عشان الأكل طلع مالح او البيت مش نضيف او غيره، ولما كبرنا شوية بقينا بنتشارك مع ماما في الضرب، علقة الصبح..علقة بليل..لحد ما اتعودنا لما يرجع يضربنا،
عقدة عشق بسببه، كانت طفلة مش فاهمة حاجة وبتتضرب وبتسكت، لكن توصل بيه القذارة انه يجيب راجل قده عشان يجوزه عشق! عايز يقبض تمنها فلوس يقدر بيها يشرب الحـشيش اللي كان بيطفحه! بالمناسبة …الحشيش كان سبب من اسباب ضربه لينا في يوم من الأيام…
لما وقفت قدامه حبسني في أوضة وكان هيجوزها غصب، لولا أمي اللي لحقت الدنيا واتصلت بالشرطة وجم أخدوه واتحبس هو واللي معاه، وطلق أمي وهو هناك وبعد عننا تمامًا وانقطعت أخباره…وخلصنا منه للأبد بس للأسف..مقدرناش نخلص من عقدة سببهالنا، وماما بعدها فتحت الحضانة بفلوس كانت محوشاها وانا روحت اشتغلت بشهادتي معاها
دموعها الغزيرة التي تغرق وجهها جعلته يرغب في ضمها والتخفيف عنها، إلا انه تحدث في النهاية
– غار في داهية..ولا تزعلي نفسك يا ست البنات!
ضحكت بخفة فـ ابتسم ياسين وتأمل وجهها الملائكي لبرهة، لتتسع بسمته شيئًا فـشيء عندما شعر بنبضات قلبه تعلو بعنف شديد!
رنّ هاتفه مقاطعًا تلك اللحظة، اختفت بسمته الودودة واستأذن منها، فـ مسحت دموعها ببطء وأومأت له، اجاب ياسين على الهاتف ليصدح صوتًا أنثويًا بالجوار
– أستاذ ياسين مدام رحاب عيزاك ضروري، وعايزة كمان بنتها، أرجوك متتأخرش دا آخر طلب للمدام دي شكلها بتوّدع والدكاترة مش عارفين يعملوا حاجة!
لم يدعها ياسين تُكمل وانطلق خارجًا من الشرفة وتلقائيًا خرجت خلفه روان بإستغراب وعلامات الإستفهام تملئ وجهها
❀❀❀
سـار في الممر المؤدي بغرفتها بخطواتٍ أشبه بالركض، وچويرية خلفه تمسك بيد روان التي أصرت القدوم معهم، اقتحم الغرفة ليجدها تستند بظهرها على ظهر الفراش وما إن رأتهم حتى تبسمت بحنان، ومن هنا ركضت چويرية تندس في أحضان والدتها قائلة
– وحشتيني اوي يا مامي
ابتسمت رحاب بألم وهتفت رغم شحوب وجهها وألمها الجسدي
– وانتي كمان يا روح مامي
ضمت الصغيرة إليها أكثر وظلت تُقبّل كل ما تطوله شفتيها، ودموعها تنسال على وجنتيها بغزارة، استعادت رباطة جأشها وابعدت الصغيرة عنها هامسة
– انا بحبك اوي يا چويرية، بحبك اوي يا حبيبتي!
التمعت الدموع في عين الصغيـرة حين علمت المخزى من كل تلك القبلات والأحضان
– وانا كمان بحبك يا مامي..بحبك اوي اوي
ضمتها إليها أكثر رغم الألم، وأغرقت الدموع ملابس الصغيرة، تنفست بقوة وهمست للصغيرة
– افتكري اني دايمًا معاكي وبصي للسما وشوفي أكتر نجمة بتلمع..هتلاقيني بعملك باي باي من وراها..تمام؟
اومـأت الصغيرة بدون التفوه بكلمة، وهبطت من الفراش ببطء ودموعها تهبط على وجنتيها كشلال لا يتوقف، ومن ثم ركضت لروان تندس بين أحضانها…
ابتسمت رحاب في وجه ياسين وأردفت بإرهاقٍ جلي
– سامحني يا ياسين، مش عايزة أموت وانا شايلة ذنب، كانت لحظة شيطان سامحني يا أبو قلب طيب!
أومـأ لها مبتسمًا بهدوء رغم النيران الضارية المشتعلة داخله
– مسامحك يا رحاب..مسامحك
تنهـدت بـراحة وأغمضت عينيها متطمئنة، وهمست له بخفوت وقد غلب صوتها نبرة التعب
– بنتي أمانة في رقبتك يا ياسين، متآخدهاش بذنبي الله يخليك..بلاش يا ياسين..بالله عليك بلاش
وبكل حب العالم الذي اكتسبه خلال فترة معاشرته لتلك الصغيرة اللطيفة قـال
– اتطمني يا رحاب، دي بنتي..استحالة أأذيها…دي حتة من قلبي..عمرك شوفتي حد بيأذي قلبه؟
ابتسمت بشحوب، ونقلت نظرها للصغيرة التي تتوسط أحضان روان وتبكي بحُرقة وتنوح بوجع، فـ ابتسمت بسمة أخيرة..حنونة..تبث داخل طفلتها الأمان..وتعدها باللقاء في الحياة الأخرى…
أغلقت جفونها..وصعدت روحها إلى بارئها..وإبتسامتها المطمئنة تزين ثغرها..فـ انطلقت صرخات الصغيرة ببكاء، وأغمض ياسين عينيه بـحزن، ونهض ببطء يسحب طفلته من بين يدي روان ويحتضنها هو..لتتشبث فيه بقوتها خشيةً من أن يتركها هو أيضًا..مثلما فعلت والدتها!
همس خافت خرج من بين شفتيها المرتجفتين قائلة بصوتٍ مبحوح متألم
– ماما ماتت، مش كدا….يا بابا!
وآه من أثر وقع تلك الكلمة على مسامعه، وكم كان يشتاق لسماع كلمة “بابا” من بين شفتي قطعة منه، وهنا شعر ياسين حقًا انه قد مَلَك الدنيا وما فيها!
فـ بلمسة طفلته وهمسها الرقيق بـ “بابا” هانت كل شدائد ياسين..وزالت غمامة سوداء غطت على قلبه منذ سنواتٍ عديدة!
«بعد مرور خمسة أشهر»
ضحكت روان بمرح وهي تضم چويرية إليها، فـ ابتسم ياسين الجالس أمامهم على مقعدٍ ما بخارج القاعة المُقام بها حفل زفاف “عشق وناصر”، تنهـد ياسين بـسعادة وقلبه يرفرف بفرحة فـ رؤية طفلته امامه سعيدة تضحك هو ما يجعله سعيدًا في حياته حقًا، يالها من صغيرة قادرة على تحويل ألمه بضحكتها، وإقلاب غضبه لحنانٍ!
– بعد كدا تقوليلي ونفكر في مقالب سوا نعملها فيه
ضحكت چويرية وأشارت على عينيها اليمنى وبعدها اليسرى قائلة
– من العين دي قبل دي
ضحكت روان بصخب واحتضنت الصغيرة بحنان وهي تقبّل رأسها وتستنشق رائحة خصلاتها الخلابة بحق!
– ياسين احم..عايزة اقولك حاجة بس مكسوفة
قالتها وهي تبعد الصغيرة عنها، فـ تأهبت حواسه منتظرًا ما ستقول لعله يكون اعتراف، نكست رأسها بخجل وهتفت
– بص يعني…هو..
حثها على النطق بنفاذ صبر
– اخلصي مش هنقعد العمر كله كدا
رفعت عينيها وقالت بإبتسامة بلهاء
– ايه نوع الشامبو اللي بتستخدمه چويرية وبيخلي شعرها سايح وريحته حلوة كدا؟
تجمدت البسمة على شفتيه قائلًا
– والله؟
اومـأت ببراءة فـكاد ينهض ويهشم أسنانها البيضاء التي عندما تبتسم تُظهرهم بسخاء!
جذبتها چويرية لكي تغير مجرى الحوار حتى لا ينهض ياسين ويقتل روان أمامها الآن!
– بس انتي مش هتتجوزي بقا يا أبلة؟
تنحنحت روان بحرج
– ايه الإحراج دا، لسه يا حبيبتي مجاش ابن الحلال
تمتم ياسين بإقتضـ،ـاب
– والله موجود بس الحلوفة مش ملاحظة
عقدت روان حاجبيها بتعجب
– بتقول حاجة يا ياسين؟
هـز رأسه بنفي مبتسمًا بسماجة،
فـ أردفت الصغيرة ببراءة مزيفة متسترة تحت ستار المكر
– هو انتي ممكن تتجوزي بابا؟
توترت روان وتلعثمت
– يعني آ…
لم تعطها فرصة للرد وتابعت بحماس
– يعني استناكي تبقي مامتي التانية
قالتها بحسم ولم تعطها فرصة للرد مما أربك حواس روان التي ابتلعت ريقها وناظرت ياسين بتوجس، فـ بادلها بنظرة غامضة لا تعلم ما تكنها..ولكن في النهاية..تنهدت وصمتت!
«بعد مرور عشرين عـامًا»
خطوات كعبها يصدح بالمكان ويصعد الدرجات الصغيرة وصولًا للمسرح..بسمة واسعة تزين ثغرها المطلي باللون الوردي..وتصفيق حار من الجميع…
التقطت جائزتها بعدما صافحت الأشخاص ومنهم من سلمها الجائزة والشهادة المتراصين خلف طاولة كبيرة..
وببطء تقدمت من المكبر ووضعت جائزتها والشهادة بجانبها، وتنحنحت قبل أن تقول بصوتٍ رقيق فطري
– مساء الخير..انا چويرية، عندي 26 سنة حقيقةً كان نفسي أبقا رائدة فضاء لسبب انا وياسو أبويا بس اللي نعرفه، بس ميضرش دكتورة دكتورة
ضحكت بخفة فـ ضحك ياسين معها وطالعها بعينين تفيضان فخرًا…
فـ تابعت وهي تطالع ياسين ببسمة حنونة ممتنة
– أول دكتوراه أحصل عليها السنادي..
وبقدم جزيل شكري لوالدي…ياسين المرشدي..
والدي اللي وقف جنبي وساندني لحد ما وصلت..والدي اللي فضل في ضهري بيدفعني للطريق وكل ما أتعب يفكرني بقيمة تعبي في النهاية..
والدي اللي كان دايمًا بيقولي “انتي حتة من قلبي..لازم أحافظ عليكي لا تتخدشي”، بابا…انت أعظم أب شوفته في حياتي!
ربنا يديمك ليا انت وعيلتنا الصغيرة، وأولهم..ماما روان
تعالت التصفيقات العالية، وكان ياسين يرمقها بفخر..بسمة فخورة تزين ثغره ودموع غزيرة تجمعت بمقلتيه والتمعت من أسفل نظارته الطبية..
ربتت “روان” بيديها المجعدة أثر الزمن على كتفه بحنان والدموع تكافح لكي تهبط من مقلتيها فخرًا..
عشق وناصر..وأيضًا وداد وزوجها وبراعم وفراس..وياسر يحتضن زوجته وطفلته تجلس على ساقه وتصفق لإبنة خالها بسعادة طفلة..وكذلك باقي أبناء الأشقاء الذين هم أصغر من چويرية بالكثير، نهض ياسين وعبر من الجموع واقترب من إبنته..
تزامنًا مع هبوطها وهرولتها ناحيته..لتتلاقى الإبنة وأبيها في منتصف الساحة في مشهد مُغري للبكاء، احتضنها برفق وكأنها جوهرة يخشى خدشها..
وهي حقًا جوهرته الثمينة..هي قطعة من قلبه..ولا يستطيع أحد التفريط من قطعة من قلبه!
قبّل جبينها ورفع عينيه الممتلئة بدموع الفخر وهمس لها
– “انتي حتة من قلبي يا بنت قلبي”
وضحكة وسط الدموع..وإبتسامة وسط السعادة..وفرحة ترفرف بالقلوب..والأب وقطعته الغالية..جوهرته الثمينة..وقطعة من قلبه!
قانون صغيـرة، برود حوّلته لبهجة، وألم بلمستها جعلته صحة!
فـكيف لمن اشتاق الحنان أن يُبعد النعمة بيده..
وهو من أراد الإحتواء بنفسه…؟!
#النهايـة❤
//تـمـت بحمد الله//