منوعات

غرام فى المترو بقلم ولاء رفعت من الخامس إلى الثامن

*الفصل الخامس*
كلمة أخرى في المترو
بقلم ولاء رفعت علي

يستند رأسه علي زجاج النافذة شارداً في سنين حياته الماضية، كيف عاش ما بين الصخب وزحام الحياة بلا هدف، والدته لديها الحق فأنه يبلغ الآن الثلاثين و ماذا فعل خلالها؟!

انتبه إلي يد صاحبه الذي يقود السيارة يعطيه سي,جاراً

“ما تفوكك من جو الكآبة اللي أنت فيه يا چو وفرفش وعيش اللحظة”

أخذ الس,يجار ونظر إليها فسأله

“الس,يجارة دي عادية و لا؟”

غمز الأخر قائلاً

“و لا طبعاً”

“خد يا رامي بصراحة مليش مزاج”

“ملكش مزاج و لا بطلت؟، ده شكل رأفت بيه قلب عليك جامد أوي، يعني لا معاك عربية و لا كريدت و جاي تقعد معايا”

مزاح صديقه لم يتحمله، زفر بكلمة أخرى و صاح

“أقف هنا ونزلني”

توقف الأخر و ألتفت إليه يسأله بجدية

“فيه إيه يا يوسف، ما أنت عارف بهزر معاك، لاقيك سرحان و مخ,نوق قولت أفك عنك شوية”

تأمل يوسف المكان الذي توقف فيه الأخر فسأله

“إيه ده إحنا فين؟”

“أستني خليك هنا و ما تتحركش هاجيب حاجة من واحد و جايلك”

نزل رامي من السيارة وسار نحو شارع مظلم، ينتظره شاب يخ,في وجهه بالقبعة، أخرج له شيء من حقيبته وأعطاه إياه فأعطاه الأخر مبلغ من المال

“المرة الجاية هجيلك في المكان التاني أحسن من هنا، اتفقنا يا… ”

أخبره الأخر مبتسماً

“محسوبك سمير العو يا باشا، و لو عايز أي حاجة في أي وقت أديلي تليفون وهتلاقيني عندك”

نزل يوسف من السيارة يستنشق بعض الهواء، لاحظ وجود فتاة تسير نحوه، من مظهرها الفج ونظرتها الجر,يئة إليه علم لما هي تقترب منه

“أنت رامي بيه؟، ده أنت طلعت حلو أوي”

عقد ما بين حاجبيه وسرعان دار الأمر في رأسه، شعر بالضيق و الحنق من هذا الرامي الذي يقضي حياته في الملذات و العربدة

“ليلتك سودة يا رامي الز,فت، أنا إيه اللي خلاني أسيب الفيلا”

جاء رامي و رأى فتاة الليل تقف أمام يوسف

“مش معقول نهي العايقه؟”

ألتفت إليه و صاحت بسعادة بالغة

“يبقي أنت رامي البرنس”

جال ببصره علي جس,دها من أعلي إلي أسفل

“بس إيه الحلاوة دي يا بت، ده أنتي طلعتي أجمد من الصور”

زفر يوسف الذي يشعر بـ الازدراء منهما، بالرغم إنه يقضي لياليه في الملاهي الليلية و يحتسي الخ,مر لكنه لم يفعل الفا,حشة يوماً، ربما احتفظ بهذا الأمر أن يكون خاص مع من تشاركه حياته أو زوجة المستقبل الذي لم يجدها إلي الآن، كثيراً من الفتيات يلتفون من حوله لكن جميعهن مثل بعضهن البعض، في الثياب كلمة أخرىية وعمليات التجميل والتي بدلاً من أن تبدي جمالهن بل أظهرت النقيض، كم كره كل ما هو زائف.

“رامي أنا مليش في حواراتك الشمال دي، لو عايز تسهر معاها يبقي خدها في أي حتة بعيد عن البيت”

شهقت الفتاة وقالت

“أخص عليك يا بيه يا حليوة، و أنا اللي كنت ناوية أد,لعك، و أخرتها تقول عليا شمال؟!”

“معلش يا نهي أمسحيها فيا أنا، يلا أركبي ورا”

فتح رامي باب السيارة إليها فصاحت

“مش هركب غير لما صاحبك يعتذر الأول”

عقب رامي الذي كاد ينفذ صبره

“يا ستي حقك عليا، أنا اللي شمال إرتاحتي بقي”

أنطلق بالسيارة بين شوارع المنطقة ليجد مخرجاً إلي كورنيش النيل، لكن حظهم الس,يئ ظهرت أمامهم لجنة تفتيش

“أوبا، يوسف لو معاك أي ممنوعات أرميها من الشباك، وأنتي يا نهي لو معاكي حاجة أرميها”

ردت الأخرى

“الحمد لله معيش ممنوعات”

“بقولكم إيه الظابط لو سألكم هنقول أنك مرات عمي و تع,بانة وواخدينك علي المستشفي”

عقب يوسف الذي ود أن يمسك بصاحبه ويلقي به امام رجال الشرطة

“و الله كنت حاسس أن أخرة عمايلك هنلبس في الحيط”

“أكتم بقي يا غراب البين إحنا داخلين عليهم، بت يا نهي أترمي بضهرك لورا وأعملي نفسك بتفرفري”

“حاضر”

و عادت بظهرها إلي الوراء وألقت رأسها وكان لسانها يخرج من فمها، نظر إليها يوسف عبر المرآة وعلق

“دي كدة واحدة مشنوقة مش عيانة، هو يوم باين من أوله ربنا يستر”

“طلع الرخص والبطايق منك ليه”

أمرهما الضابط ثم نظر إلي الفتاة فأخبره رامي بح,زن زائف ليثير عطف الضابط نحوهم ويتركه يرحل

“دي مرات عمي يا باشا و تع,بانة عاملين نلف بيها من ساعة علي عيادات و الساعة عشرة ونص مش لاقين دكتور”

رفع الضابط شاشة هاتفه ليتحقق من أمر ما وينظر إلي نهي التي تغ,مض عينيها و ترتعش في آن واحد

“مش كفاية تمثيل يا نهي بقي؟!، ده أنتي مطلوبة بالاسم، يلا يا حلو منك ليه أنزلوا، قال مرات عمك قال”

فتح أحد رجال الضابط باب السيارة وأخرج رامي الذي يتوسل إليهم

“و ربنا يا باشا أنا أول مرة أشوفها”

“بطل ولولة يالاه و مش عايز أسمع صوتك، في القسم أبقي اتكلم”

و داخل سيارة الشرطة، يجز يوسف علي أسنانه، و يضم قبضته

“الله يلعنك يا رامي، شوفت عملت فينا إيه؟!”

لوح الأخر دون مبالاة

“يا عم أسكت بقي مش ناقصاك، مكنتش اعرف ده هيحصل”

عقب يوسف بغيظ شديد

“شكل البت دي وراها بلوه طالما معمول كمين مخصوص عشانها، ربنا يستر و ما ياخدوناش بذنبها ”

صاحت رامي من بين أسنانه

“اسكت، كفاية بقي”

“أتلم منك ليه خلي ليلتكم تعدي”

كان صوت العسكري الذي فاض الأمر به منهما

※ ※ ※

في المخ,فر تقف أمام مكتب الضابط حول رسغها صفد معدني متصل بأخر حول يد رجل الشرطة، تبكي والدتها و تنوح، تربت شقيقتها علي ظهر والدتها لتهدأ

“ما تخافيش يا كلمة أخرى، بإذن الله مفيش حاجة والمحامي يبقي ابن عمي، أنا حكيتله كل حاجة زي ما هند قالتلي، و إن شاء الله هتخرجي”

“يا جمال أنا مظ,لومة، و زي ما هند قالتلك عملت محضر في الز,فت اللي اسمه رجب”

“طب معاكي صورة من المحضر؟”

“في البيت”

سألتها ابتسام

“قوليلي حطاها فين و أنا هاروح أجيبهالك بسرعة قبل ما المحامي يجي”

اجابت كلمة أخرى بعد أن قامت بمسح دمو,عها بالمح,رمة

“هتلاقيها تحت هدومي في الدولاب، أول رف و هتلاقي جمبهم فلوس هاتيهم وتعالي بسرعة”

“عشر دقايق و هاكون عندك إن شاء الله”

أوقفها جمال قائلاً

“استني يا ابتسام أنا جاي معاكي أوصلك”

“شكراً يا جمال، مفيش داعي أنا هاروح و أجي بسرعة”

أط,لقت ساقيها للريح، بينما ما زالت كلمة أخرى في الانتظار، انتبهت إلي صياح إحدى رجال الشرطة يد,فع ببعض المتهمين

“اوقفوا هنا لحد ما أدخل للظابط”

تشدقت نهي بصوتها النافر

“موبراحة يا شويش، ده لو مش عشاني، يبقي علي الأقل عشان البهوات دول”

عقب يوسف يزجرها بنظرة تحذيرية

“اسكتي مش عايز اسمع صوتك، مش كفاية جابونا هنا بسببك؟!”

“هو أنا كلمة أخرىتك أنت وصاحبك علي إيديكم عشان تاخدوني معاكم؟!، لاء يا حبيبي كان كله بالاتفاق ورسايل صاحبك معايا علي الواتس أكبر دليل”

كان كلا من كلمة أخرى و جمال ووالدتها يستمعون و يرون ما يحدث، أدركت كلمة أخرى التهمة التي جاءوا بها إلي هنا، حدقت إليهم بازدراء مما لفت انتباه نهي والتي وبختها

“مالك أنتي كمان بتبصيلنا بقرف كدة ليه؟!، بصي علي قدك يا حلوة، ما أنتي متكلبشة زيك زينا، و مش بعيد جاية آداب، يعني الحال من بعضه يا عينيا”

زفر رامي بضيق من هذه النهي فصاح

“ما خلاص يا ست نهي، مش كفاية متكلبشين بسببك، أهي دي آخرة الشمال”

دنا جمال وأخبر كلمة أخرى

“ملكيش دعوة بالأشكال دي و ما ترديش عليها”

استرقت نهي السمع فث,ارت كالعاصفة

“أشكال مين يا دل,عدي…

لم تتحمل كلمة أخرى أكثر من ذلك فمدت يدها بقدر مستطاع قائلة

“بت أنتي أنا ساكتة لك من الصبح و ربنا ما أنا سيباكي”

حاول جمال منعها وكذلك والدتها، وقف يوسف حائل بينهما حتي لا تشتبك كلتيهما معاً، كان ينظر إلي كلمة أخرى تلك الشرسة فكانت تدفعه من أمامها لتنال من نهي، لكنه كان يتمتم بكلمات كلمة أخرىها جعلها لا تسمعها

“اهدي يا آنسة، ما ينفعش اللي بيحصل ده خالص”

و عدم سماعها جعله ضاق به ذرعاً فصاح بكلمة أخرى عارم

“كفاية بقي”

توقفت وتراجعت تستند إلي الحائط علي نقيض توقع والدتها التي خشيت أن ابنتها تقبض علي تلابيب هذا الشاب لأنه صرخ في وجهها بكلمة أخرى.

قام عامل بمناداة كلا من نهي و رامي و يوسف

، و تبع قوله بأمر

“يلا أدخل منك ليها”

ذهب ثلاثتهم بينما كان يوسف ينظر إلي كلمة أخرى التي تحدق إليه بامتعاض و حنق في آن واحد

※ ※ ※

أخذت ابتسام الورقة والمبلغ الذي كان في خزانة شقيقتها فغادرت المنزل مسرعة، أوقفها نداء عثمان

“ابتسام، استني عندك”

توقفت حتي لا يلفت الأنظار بمناداته لها

“هو البوليس جه خد كلمة أخرى ليه؟”

أخبرته علي عجالة

“لما نرجع إن شاء الله هبقي أقولك، أصلي مستعجلة معلش”

و انطلقت من أمامه كالزئبق، تعبر الطريق المؤدي إلي الشارع الرئيسي حيث يوجد قسم الش,رطة، لم تنتبه إلي السيارة التي كادت تدهسها وصوت الزمور الذي لفت أنظار الجميع، نزل من سيارته فتفاجئ إنها هي، قد قفزت علي الرصيف بأعجوبة، همت بالنهوض فوجدت يد رجولية تمتد إليها

“معلش ما أخدتش بالي و أنتي طلعتي فجأة في… ”

تلاقت عينيها بعينيه

“مستر حسن؟”

أخذ يتفحصها جيداً بخ,وف يسألها والقلق يغزو ملامحه

“أنتي كويسة؟”

ابتسمت بخجل وأخبرته، كما تريد أن تتهرب من أمام بصره حيث كلما تجده ينظر إليها تشعر بالتوتر

“الحمدلله أنا بخير، أنا لما لاقيت العربية كانت هتخبطني رميت نفسي علي الرصيف”

“لو حاسة بأي وجع تعالي أخدك علي أقرب مستشفي”

“مفيش داعي يا مستر، الحمدلله أنا كويسة، عن إذنك”

وجدها تتجه إلي باب المخفر فأوقفها يمسك ساعدها

“أنتي داخلة القسم ليه؟”

فنظرت إليه بده,شة لاسيما نحو قبضة يده علي ذراعها، شعر بالحرج وتركها، تحمحم

“أنا آسف”

قلبها يخفق من الخجل والحر,ج في آن واحد

“و لا يهمك يا مستر، أنا داخلة لـ…”

“ابتسام؟”

قاطعها نداء جمال الذي خرج للتو ينتظرها، تقدم منها وهو ينظر إلي حسن باستفهام، بينما الآخر يحدق نحوه بضيق، ابتلعت ابتسام ريقها وأشارت لجمال نحو الآخر

“مستر حسن مدرس الإنجليزي”

ثم فعلت العكس، و لا تعلم لما تبرر موقفها أمام حسن!

“أبيه جمال يبقي جارنا وخطيب هند صاحبة كلمة أخرى أختي”

أومأ جمال له قائلاً

“أهلاً وسهلاً يا أستاذ”

ثم سأل إبتسام

“جيبتي الحاجة؟”

رفعت الورقة من داخل حقيبتها الصغيرة

“اه جبتها وجبت الفلوس، هو المحامي جه؟”

زفر الآخر بسأم

“أتصلت عليه عشان استعجله بيكنسل، أنا هخطف رجلي لمحامي تاني معرفة، أدخلي أقفي مع كلمة أخرى و مامتك عقبال ما أجي”

تدخل حسن بعد شعوره بأن هناك خطب ما يخص عائلة ابتسام

“أنا مش فاهم حاجة، بس لو عايزين محامي شاطر وجمبينا في المعادي”

و في غض,ون ثلاثين دقيقة قد اتي المحامي صديق المُعلم حسن، شرح له جمال كل ما حدث وقدم له صورة المحضر التي أحضرتها ابتسام، و بكل سلاسة ومهارة أمام الضابط نجح المحامي في اظهار الحقيقة أمام الجميع وبعد ضغط الضابط علي المدعو رجب و بمواجهته بما فعله في كلمة أخرى مسبقاً فاعترف بكل شيء.

ينظر بخ,وف مستسلماً

“أيوة أنا اللي دبرتلها موضوع الس,رقة عشان ماتعتبش المحل تاني وتحكي لأختي علي اللي حصل”

نهضت شقيقته التي كانت تجلس أمام مكتب الضابط وصاحت بكلمة أخرى عارم

“يخر,بيتك، إيه يا أخي دي تالت و لا رابع مرة تعملها، و أنا زي الهبلة كل ما أجيب واحدة تسوقلنا البضاعة تقوم تطفشهالي ولما أسألك تقولي حرا,مية، أتاري كنت بتداري علي وسا,ختك للتفضح قدامي”

“اهدي يا مدام رشا، أموركم تناقشوها في البيت”

تدخل الضابط قائلاً ما سبق فأجابت الأخري

“معلش يا باشا غصب عني، علي طول ما بيجليش من وراه غير المصايب لكن توصل لحد أكل عيشي، يبقي خلاص كل واحد يروح لحاله، و ياريت تحبسه عشان أنا قرفت منه”

رمقها شقيقها بعتاب في مشهد هزلي

“بقي كدة يا رشا؟!، ده أنا أخوكي اللي مالكيش حد غيره في الدنيا”

نظرت بازدراء إليه

“جاتك خو، و أعمل حسابك لو اتكتبلك تخرج من هنا ما أشوفش وشك تاني و ملكش حاجة عندي، أنسي إن ليك أخت خالص”

ألقت عليه كلماتها ثم تابعت

“معلش يا حضرة الظابط، أنا هتنازل عن محضر السرقة”

تنهد الضابط وأخبرها

“تمام يا مدام رشا، بس أخو حضرتك هيشرف معانا عشان محضر التح,رش ومحاولة التعدي علي الآنسة كلمة أخرى”

و بعد قليل…

خرج رجب برفقة العسكري مقيد بالأصفاد، و خلفه كلمة أخرى والمحامي، رك,ضت كل من ابتسام و والدتها

“إيه الأخبار طمنينا؟”

تحدث المحامي بدلاً من كلمة أخرى ليخبرهم

“مدام رشا أتنازلت عن المحضر بعد اعت,راف أخوها بكل حاجة”

صاحت عزيزة داعية

“الحمدلله يارب أنت اللي عالم بحالنا، تسلم يا بيه علي وقفتك مع بنتي”

ابتسم الأخر وقال

“العفو يا أمي، أنا معملتش غير الواجب، كفاية أنكم معارف الأستاذ حسن، أعز أصدقائي”

ألتفت كلمة أخرى نحو حسن و حدقت إليه بامتنان

“شكراً يا أستاذ حسن”

ابتسم الأخر وعقب مرحباً

“مفيش بين الأهل والحبايب شكر، و ربنا يعلم أنتم بالنسبة لي إيه”

و طيف نظرة من عينيه نحو ابتسام التي ارتبكت و خالجها التوتر، لم تغفل كلمة أخرى عن ما حدث للتو

“تسلم يا أستاذ حسن”

“مش كدة خلاص خلصنا و نقدر نروح؟”

سألتهم عزيزة فأجاب المحامي

“اه طبعاً يا حاجة تقدروا تروحوا”

فقال جمال

“يلا بينا يا خالتي أنا راكن التوكتوك بره”

فتدخل حسن

“معايا عربيتي برة تعالوا هوصلكم كلكم”

عقبت كلمة أخرى بعد أن ألقت نظرة علي شقيقتها

“مش عايزين نتعبك معانا يا مستر أكتر من كدة”

“تعبكم راحة، أتفضلوا معايا”

ذهب كل من كلمة أخرى و شقيقتها التي تتشبث في ذراع شقيقتها، كانت تخشي أن يخبر حسن كلمة أخرى عن مقابلتها بعثمان و ركوبها خلفه الدراجة الن,ارية، لم تترجم ماهية نظرات حسن بعد!

و في الرواق و هم يغا,درون، تقابلت عينين كلمة أخرى بخاصة يوسف الذي كان يجلس القرفصاء بجوار رامي الذي كان يجلسه مثله ويضع كفيه علي وجهه في انتظار المحامي.

※ ※ ※

تلملم والدة عاطف الخضروات في جوال بلاستيكي، رأت نجلها يقف أمام باب البناء ينفث دخ,ان سي,جاره وينظر نحو ش,رفة منزل سماح، كم ألمه حديثها المهين له، انتشلته والدته من براثن أفكاره

“أنت لسه واقف هنا، أنا افتكرتك روحت مع جمال ورا عزيزة و بناتها”

نفث الد,خان من فمه قائلاً

“أنا متابع مع جمال علي التليفون، خرجوا و جايين في الطريق”

“و إيه اللي حصل؟”

“الست اللي بتاخد منها كلمة أخرى شغل اتهمتها إنها سر,قت منها مبلغ، و طلع في الأخر أخوها اللي عامل الحوار ده واعترف، فأفرجوا عن كلمة أخرى”

“لا حول و لا قوة إلا بالله، ولاد الحرام ما بيخا,فوش ربنا، ده البت كلمة أخرى يا عيني هي و أمها وأخواتها غلا,بة، من بعد مو,ت أبوهم و الدنيا عمالة تل,طش فيهم، يارب يا كلمة أخرى يرزقك بابن الحلال اللي يهنيكي يا بنتي”

عقبت والدته حديثها بنظرة ما نحو ولدها الذي يعلم ماذا تقصد، نفث الدخان ثم ألقي بقايا سي,جاره فدعس عليها بقدمه

“كل واحد بياخد نصيبه ياماه”

نظرت إليه بامتعاض تسأله بتهكم

“و نصيبك بقي سماح بنت مليجي، اللي سيرتها علي لسان الصغير والكبير في الحارة؟!”

كاد يتفوه لكنها تابعت مقاطعة إياه

“أقسم بالله لو صممت ونفذت اللي في دماغك يا عاطف لا أنت ابني و قلبي هيبقي كلمة أخرىان عليك ليوم الدين”

زفر بحنق و بنفاذ صبر أخبرها

“من غير تهديد ياماه، الموضوع أصلاً انتهي من قبل ما يبتدي، و السبب فَرشة الفجل والجرجير اللي ملهاش أي لازمة لأننا الحمدلله أنا وأخواتي مش مخلينك محتاجة أي حاجة وبرضو ماسكة في بيع الجرجير”

رأت الكلمة أخرى في عينيه وتهكم لاذع في حديثه

“ما له الفجل والجرجير يا عين أمك؟!، مش دول اللي علموك أنت وأخواتك وأتربيتوا لحد ما بيقتوا رجالة؟!”

لم يجد قول مناسب أو الدفاع عن موقفه الضعيف، فاستطردت والدته

“لتكون الحلوة أم عباية محزقة و شعرها طالع من نص الطرحة عايرتك بيا؟!، مش أحسن من أبوها الحشاش اللي عايش عالة علي ولاده ده غير رباهم من الحرام؟!، كفاية شوالات الدقيق المدعم اللي كان بيبعها من ورا صاحب كل فرنة يشتغل فيها، فوق يا ابن بطني لنفسك و متخليش حتة بت ما تسواش تترسم عليك و لا تعايرك، أنا ست بميت راجل من عينة أبوها، شقيت عليكم من وأنت وأخواتك لسه عيال بتلعبوا في الحارة، لا عمري مديت إيدي لحد و لا استلفت جنيه، و البيت ده”

ربتت بحدة علي حائط منزلهم

“كل طوبة اتبنت فيه من الفجل والجرجير اللي مش عاجبينك”

اقترب منها قائلاً

“خلاص ياماه حقك عليا، أنا بس كنت مخنوق و جت فيكي، أنا آسف”

قام بتقبيل رأس والدته التي قالت له

“ربنا يهديلك قلبك يابني ويرشدك للصح، قادر يا كريم”

※ ※ ※

حل الصباح وكلمة أخرىت أشعة الشمس عينين أحلام التي غفت في غرفة صغيرها، تشعر بألم في أنحاء جسدها تتذكر ليلة الأمس…

علمت للتو من جارتها عبر الهاتف بأن الشرطة جاءت وقاموا بالقبض علي شقيقتها، جن جنونها و أرادت أن تذهب لتطمئن عليها أو تقدم المساعدة لها، ارتدت عباءتها واستعدت للذهاب، تحمل صغيرها وتفتح باب المنزل فوجدت زوجها قد عاد للتو وكالعادة ثملاً، قبض علي ذراعها ودفعها إلي الداخل

“رايحة فين و من غير استئذان يا…. ”

“سيب دراعي للواد يقع مني يا سمير، هاكون رايحة فين، مليش غير أهلي اللي رايحة ليهم”

“مش هاتروحي في حتة و يلا غوري علي جوة”

دفعها مرة أخري بقسوة فوقعت وتحتضن صغيرها بين يديها، تأوهت من الألم تاركة ابنها برفق، صاحت بألم

“يخربيت الزفت اللي كل ليلة بيخليك راجع بالمنظر ده وتبهدل فيا كدة”

حاولت أن تنهض مستندة علي الكرسي فوقفت

“إيه رأيك والله لأنا رايحة وأعلي ما في خيلك أركبه”

اتسعت عيناه بشرٍ، فبالرغم أنه ثملاً لكن خصاله السيئة في حالة وعي ويقظة، اقترب منها

“بتقولي إيه يا بنت الـ…، أصلي ما سمعتش”

آهه اخترقت سمع كل من يقطن في البناء و من يسير في الخارج، ذاك أثر ما فعله بها الآن، جذبها من وشاحها يسحبها كالشاه إلي غرفة النوم

“صوتي يا بنت عزيزة صوتي، أنتي لسه شوفتي حاجة”

أغلق الباب تاركاً صغيرهما في الخارج يبكي و يردد منادياً علي والدته و الذي قام والده بدفعها للمرة الثالثة فوق الفراش، فتراجعت بخوف تتوسل إليه وهي تراه يخلع طوق بنطاله

“خلاص يا سمير، أنا آسفة، والله ما هكررها تاني، أبوس إيدك بلاش الحزام”

“ما أنا مش هخليكي حتي تفكري تكرريها تاني، و لازم تتأدبي”

صرخاتها تتردد ما بين جدران الغرفة، كلما تهرب من أمامه وتحتمي في ركن من أركان الغرفة الأربعة، يجذبها بقسوة من خصلات شعرها بعد أن جذب وشاحها بكلمة أخرى ضاري و إبرة المشبك قد جرحت جانب عنقها.

كما تكرر هذا المشهد و مازالت تتمسك بهذا الشيطان والحُجة التي لا تنطلي علي طفل صغير إنها تحبه، فكيف ذلك؟!

عادت من فلك ذاكرتها، تنعي حظها كيف تتحمل هذا الرجل الذي لا تعرف الرحمة درباً إلي قلبه.

نهضت بثقل تتحمل آلام كل إنش بجسدها، ذهبت إلي الحمام لعل المياه الدافئة تخفف و لو قليلاً من الألم الذي ينهش بها.

و في طريقها رأته يتمدد علي الأريكة في الردهة يغط في النوم، لفت انتباهها متعلقاته التي تساقطت علي الأرض، فكانت من بينها مُدية، دنت لأخذها وقامت بفتحها وإشهار النصل الحاد، تفكر في التخلص منه لكن ماذا بعد؟!

جافلتها حركة مفاجئة منه، فكان يتقلب علي جانبه الأخر، ألقت المدية برعب وركضت إلي الحمام و أغلقت الباب جيداً، فتحت الصنبور ذو الثقاب المتعددة، خلعت ثيابها ووقفت أسفله، تنظر إلي آثار الطوق علي ذراعيها وتبكي فتختلط دموعها بالماء.

※ ※ ※

ينظر نور في ساعة يده ذات التكنولوجيا الحديثة، مدت زوجته ذراعيها تعانقه من الخلف

“لابس بدري كدة و رايح علي فين؟”

استدار ليصبح أمامها يبتسم بسخرية

“يعني هاكون رايح فين علي الصبح يا كوكي؟!”

ضيقت عينيها و بمكر تخبره

“ما أنا عارفة أنك رايح الشركة، بس مش عادتك تمشي بدري حتي قبل ما أونكل يصحي، و لا تكون رايح تطمن تشوف السكرتيرة الجديدة جت في ميعادها و لا أتأخرت”

ولي ظهرها إليه ليخفي عنها التوتر الذي غزي ملامحه للتو

“و أنا مالي و مال السكرتيرة، هي مساعدة بابا مالهاش علاقة بيا”

عقدت ساعديها أمام صدرها قائلة

“أتمني”

يدرك المغزى من وراء ما قالت، لا يريد الجدال في هذا الأمر معها لأنها سوف تكشف خبايا مكنونه بسهولة و من خصاله يخشى المواجهة أو يكون في وضع المخطئ سواء أمامها أمام والديه.

“لو فيه حاجة أبقي كلميني، سلام”

تركها وغادر الغرفة، تذكر أمر شقيقه الذي يمكث لدي صديقه، قام بمهاتفته و الأخر أجاب بعد رنين استمر لثواني عديدة

“ألو يا يوسف؟”

أجاب الأخر وأثر النوم علي صوته بادية

“فيه حاجة يا نور؟، ماما كويسة؟”

“و ليك نفس تنام بعد اللي عملته امبارح؟”

استمع إلي زفرة نابعة من شقيقه الذي سأله بضجر

“نور، أنا مش فايقلك، وياريت ما تكلمنيش غير لما تكون فيه حاجة مهمة”

“تصدق أنا غلطان بكلمك عشان أطمن عليك و أقولك كفاية لعب العيال بتاعك و أرجع، لكن هقول إيه بس، بابا عنده حق لما قالك إنك دلوعة وتربية ماما”

كانت إجابة الأخر إنهاء المكالمة دون إنذار، زفر نور بحنق و يجز علي أسنانه متمتماً

“ماشي يا يوسف، شوف مين اللي هيخرجك من أقسام و لا أي داهية تاني”

※ ※ ※

تضع عزيزة أطباق الطعام علي المنضدة وتنادي علي ابنائها، فكانت كلمة أخرى تتظاهر بالنوم، فما حدث افقدها النعاس منذ الأمس و كذلك الشهية، فهي لم تلج إلي مخفر أبداً من قبل سوي عندما قامت بتقديم بلاغ في رجب فقط، لم تعلم أن الأمر سيتطور إلي تلفيق مصيبة كانت ستقضي علي مستقبلها ومستقبل أسرتها.

و علي الجهة المقابلة تقف ابتسام أمام قطعة المرآة المعلقة علي الحائط، تضبط من هندمها وتتذكر نظرات حسن لها طوال الطريق حتي طلبت منه كلمة أخرى أن يتوقف بالقرب من الحارة، حتي لا تتشدق الألسنة بالقيل والقال.

لما كلما تنظر إليه عينيه تشعر بالرهبة، و لهفة تنضح منه لكن يخفيها خلف وجه صارم أحياناً أخري بالأحرى عندما يراها برفقة عثمان.

انتبهت إلي صوت اهتزاز يأتي من هاتفها، تعلم من المتصل دون أن تلقي نظرة علي شاشة الهاتف فمن غير يتصل بها كل صباح ليطمئن عليها ويقوم بإيصالها إلي المدرسة.

“ابتسام؟”

سرعان استدارت وجدت كلمة أخرى نهضت وجلست تنظر إليها، ابتلعت لعابها خوفاً من أن تسألها من المتصل

“صباح الخير يا كلمة أخرى، ماما كانت عمالة تنادي عليكي عشان تفطري”

أشارت الأخرى إليها بجوارها

“تعالي أقعدي عايزاكي في حاجة”

جلست وتشعر بالقلق حتي تلاشي عندما ابتسمت كلمة أخرى إليها و تخبرها بما لا تتوقعه بتاتاً

“و الله و كبرتي يا بوسي، وبقيتي بتتحبي كمان”

“أتحب؟، قصدك إيه؟”

قامت بالضغط علي خدها بأصبعيها

“مستر حسن أبو علي”

كلمة أخرى أخري، فكانت تظن أنها ستسألها عن عثمان

“ماله مستر حسن؟”

“ده ماله و حاله متشقلب من ساعة ما أتعين السنة دي في المدرسة عندكم، و لا نظرات عينيه اللي كل ما يبصلك بتقول شعر و مواويل”

تدلي فكها و لم تكن لديها قدرة علي استيعاب ما تلقيه عليها شقيقتها

“إيه اللي بتقوليه ده، إيه اللي هيخلي واحد زيه في مركزه يبص لتلميذة عنده والفرق ما بينهم عشر سنين؟!”

وضعت كلمة أخرى ذراعها علي كتفي شقيقتها

“و إيه العجيبة في كدة يعني، كلها كام شهر و هاتدخلي الجامعة إن شاء الله وهو باين عليه إنه محترم و ابن أصول، و أنا من خبرتي في البني آدمين بقولك إنه بيحبك و وقفته معانا إمبارح تمهيد إنه عايز يقرب مننا و يدخل البيت من بابه”

تشعر بانقباضه في قلبها عندما سمعت ما سبق، بالطبع تتمني زوجاً مثل حسن كما تطمح دائماً، لكن هناك عائق بل سداً منيعاً لا يمكن أن تتجاوزه بسهولة، فإذا علم عثمان بحرف من حديث كلمة أخرى لا تضمن ماذا سيفعل حينذاك، كم هو متهور وسريع الكلمة أخرى.

“بس أنا… ”

“سلام عليكو”

قاطعها صياح هند التي ولجت للتو فنهضت ابتسام وكأن مجيء صديقة شقيقتها أنقذها من هذا الحديث

“و عليكم السلام، هاسيبكم بقي ويادوب ألحق بوابة المدرسة ما يقفلوها”

صاحت كلمة أخرى

“لما ترجعي هنبقي نكمل كلامنا”

لم تقل ابتسام شىء وغادرت علي الفور قبل أن تعطلها والدتها أيضاً

“بقولك إيه يا غرومة أنا ما فطرتش وواقعة من الجوع وخالتي عزيزة جهزت الفطار و ريحة الطعمية المحشية ما تتقاومش، قومي يلا تعالي نفطر ونبقي نرغي في اللي حصل و عندي موضوع عايزة أحكيهولك”

ما كان من كلمة أخرى سوي الموافقة والذهاب لتناول الفطور مع صديقتها التي تتظاهر بالجوع لتجعلها تأكل بعد أن أخبرتها عزيزة عندما أتت بعدم تناول ابنتها الطعام منذ الأمس.

طرقات علي الباب فسألت هند بأسلوب الدعابة

“ده مين اللي حماته بتحبه جاي علي الصبح كدة؟”

فتحت كلمة أخرى فوجدت الطارق شقيقتها فعقبت الأولي بسخرية وتحمل الصغير منها

“الله يرحمها أم سمير ماتت بعد ما بليتنا بابنها”

لم تعلق أحلام علي تهكم شقيقتها، لديها حق فزوجها بلاء بل ولعنة أصابتها ولم تقدرعلي قلبها أن تخلصه من تلك اللعنة.

جلست معهم و نظرت إلي الطعام دون شهية فقالت والدتها

“مدي إيديكي يا قلب أمك و كولي، أنا عاملة الطعمية المحشية اللي بتحبيها”

و قبل أن تبدأ في تناول الطعام نظرت إلي كلمة أخرى وسألتها

“هو صح اللي سمعته إمبارح؟”

تركت كلمة أخرى الخبز وأجابت

“أيوة، و الحمدلله الموضوع عدي علي خير وأديني قدامك أهو”

لم يكن لديها رغبة في الحديث عن كل تفاصيل ما حدث، لا تريد أن تزيد من هموم شقيقتها فيكفي همها مع زوجها الفاسد.

هزت أحلام رأسها في صمت، لكن لفت نظر شقيقتها الوشاح الذي يخفي منتصف جبهتها و كاد يصل إلي شفتيها.

“ماما؟”

<!
تحرك الصغير من فوق فخذي خالته، يمد ذراعيه إلي والدته، رفعت أحلام ذراعيها لتأخذه فانحصر طرف كم عباءتها عن ساعديها.

خلعت لها الوشاح لتري ما يخفيه اسفله فاتسعت عينيها وتبادلت كلتيهما النظر، فكانت عينان أحلام تنضح بالانكسار بينما كلمة أخرى تشتعل عينيها بألسنه من اللهب تنذر بعاصفة علي وشك الحدوث.

يتبع…

ــــــــــــــــ
*الفصل السادس*

ولج للتو من باب الشركة الزجاجي، يستقبله كل ما يقابله من الموظفين بحفاوة و ترحاب لا يخلو من الإطراء و التملق، فهو ابن ربيب عملهم والمدير التنفيذي للشركة، بيده الكثير من الأمور والمسئول الثاني بعد والده مالك مجموعة «Y&N».

صعد عبر الدرج بخفة حتي وصل إلي الطابق المنشود الذي يوجد به مكتب والده أو المكتب الذي يسبق غرفة والده حيث تجلس ذات العيون التي تأسر قلوب الرجال من النظرة الأولي، خبيرة في العزف علي أوتار قلب كل من يقترب منها لاسيما ذوي الأفئدة التي تركض خلف كل ما هو جميل وصعب في آن واحد.

تحمحم قبل أن يعبر الباب، رفعت عينيها عن الأوراق التي تقوم بتحضيرها ريثما يأتي مديرها أو زوجها!
نهضت بخجل متقن للغاية، تنظر إلي أسفل
“مستر نور؟، أهلاً وسهلاً بحضرتك، أنا كنت بخلص مراجعة الإيميلات بعد ما طبعتها، هخلصها وهبعتها لرأفت بيه”

جلس علي الكرسي أمام مكتبها مبتسماً، عينيه تتجول بجرأة سافرة علي ملامحها وجسدها، انتبه إلي انها تلاحظ فحصه الشامل لها، حمحم مرة أخري ليخبرها
“أتفضلي أقعدي يا آنسة سوزي”

ابتسمت وليتها ما ابتسمت، يبدو أن درجات الحرارة ترتفع، ربما المكيف معطل، ألقي نظرة خاطفة وجده يعمل و علي درجة حرارة علي نقيض درجة حرارة جسده للتو.

“أنا جايلك مش جاي للشغل”

علامة استفهام تنضح من عينيها ذات الكحل الأسود القاتم و الأهداب الكثيفة، أكمل دون مقدمات ليس لها فائدة، شخص عملي مثله لايملك وقتاً للمرواغة فالأفضل إليه التحدث مباشرة
“بصراحة من وقت ما قدمتي هنا في الشركة و أنا نفسي أتعرف عليكي أكتر، أقرب منك، اللي حسيته إعجاب و مع الوقت الإعجاب قلب لحب، من الأخر و من غير لف و دوران أنا بحبك وعايز أتجوزك”

※ ※ ※
طرق عنيف بكفيها علي باب منزل شقيقتها وصياح وصل إلي القاصي والداني
“أفتح يا سمير يا عرة الرجالة، بتعمل علي أختي دكر؟!، أفتح و أنا هخليك عبرة يا حيوان”

خرج الجيران ينظرون بشماتة في هذا الجار المؤذي الذي يعتدي علي زوجته بالكلمة أخرى والشتائم المهينة، اخبرتها احداهن
“ما تسيبهوش غير لما تاخدي حق أختك الغلبانة منه، يا عيني عليها طول الليل عمالة تصرخ و هو عمال يكلمة أخرى فيها”

ألتفت إليها كلمة أخرى وبكلمة أخرى سألتها
“و لما أنتم سامعين اللي بيعملوا فيها الكلب ده، ما كسرتوش الباب علي دماغه و خدوتها و كلمتوني؟”

نظرت السيدة إلي الأسفل بحرج فاجابت الأخري
“ما أنتي عارفة يا كلمة أخرى اللي فيها، كل ما نيجي نحوشها منه يتجنن علينا وتقوم هي تزعق فينا وتقولنا ملكوش دعوة، واحد ومراته بيتخانقوا، أنتم ليه بتدخلوا في اللي مالكوش فيه”

زادها الحديث كلمة أخرىاً، كأنه وقود انسكب علي النيران فازدادت اشتعالاً، ألتفت نحو الباب في محاولة بائسة
“أفتح يا جبان، خايف مني؟، و الله لو ما فتحت لأنطلك من الشباك و هاجي أجرك من قفاك زي الخروف يا… ”

فتح الباب فظهر لها بشجاعة زائفة، يصيح بصوت جهوري
“جري إيه يا بت فيه إيه؟!، هو أنا عشان ساكتلك لأنك أخت مراتي يبقي هتكلمة أخرى فيها وتقلي أدبك علي واحد المفروض تقوليله يا أبيه”

“بت ما تبتك، أنا أختي هخلصها منك و من شرك يا شيطان، بس قبل ما أعمل كدة لازم أخد لها حقها، أنت مقطعلها جسمها بالحزام و أنا هقطعلك وشك بالشبشب”
لم تكن لديه فرصة استيعاب ما تفوهت به للتو، في ثوانٍ خلعت نعلها ذو الكعب الثقيل وأخذت تكيل إليه كلمة أخرىات عشوائية يصاحبها كلمات مهينة إليه، قابل ذلك برفع ساعديه للدفاع عن وجهه ويصرخ بوعيد و سباب يزيدها كلمة أخرىاً وتستمر في كلمة أخرىه، حتي جذبتها يد ذات قبضة ضعيفة، تصرخ صاحبتها
“كفاية يا كلمة أخرى”

ابتعدت الأخري تنظر إلي شقيقتها التي أكملت وتقف بينها و بين زوجها في وضع الدفاع عنه أمام الجيران وهند التي أتت برفقة جمال وعاطف حيث لحقوا بكلمة أخرى قبل أن ترتكب جريمة في هذا السمير

“إيه اللي عملتيه في جوزي ده؟!، أنا مطلبتش منك تاخدي لي حقي”

كان زوجها يتأوه واضعاً كفه علي رأسه التي اصابها جرح من أثر الكلمة أخرى
“ألحقيني يا حلومتي، أختك المفترية جت فضحتني قدام الجيران و كمان مدت شبشبها عليا، وإيه ده”

نظر إلي كفه وجد الدماء فصاح بهلع يثير ضحك الآخرين
“دم، أختك سيحت دمي يا أحلام”

ألقت كلمة أخرى نعلها علي الأرض في كلمة أخرى غير مبالية لهذا الأبله تسألها
“كنتِ عايزاني أعمل معاه إيه بعد ما شوفت اللي عمله فيكي؟!، أسقفله و أقوله برافو عليك؟!”

ابدت قوة ليست من خصالها
“حتي لو قطعني حتت ملكيش حق تعملي اللي عملتيه، و اللي حصلي يخصني أنا”

لم تصدق كلمة أخرى مدي ضعف واستسلام شقيقتها
“إيه يا بنتي الضعف و انعدام الكرامة اللي بقيتي فيه ده؟!، لسه بتدافعي عنه و بتحامي له؟!، ده لو ماسك عليكي ذله مش هتعملي كدة في نفسك”

ابتلعت الأخرى لعابها دون أن تظهر التوتر الذي داهم داخلها، أخذت تلتفت من حولها فوجدت الجيران و هند و جمال وعاطف جميعهم ينظرون إليها بامتعاض
“يا ستي أنا حرة، جوزي و بحبه و مش أول ولا أخر مرة بنتخانق، ياريت تاخدي صاحبتك واللي معاها وتمشوا من هنا”

و حدقت إلي جيرانها و صاحت
“و ياريت كل واحد فيكم يخليه في حاله وبطلوا تحشروا نفسكم في حياتي”

هزت كلمة أخرى رأسها لما تسمعه و تراه، خرج كلا من جمال وعاطف من الفناء، امسكت هند كلمة أخرى من عضدها تجذبها إلي الخارج
“يلا يا كلمة أخرى هي اللي اختارت، سبيها براحتها”

و قبل أن تغادر برفقة صديقتها صرخت بوعيد
“عارفة لو قالوا لي يا أحلام إنه بيولع فيكي مش هسأل و لا هعبرك”

تركتها و ذهبت، قلبها يتألم من أجل شقيقتها بالرغم من رد فعلها العجيب و ضعفها المقيت، أخذت تبكي بانهيار، ربتت هند عليها
“بتعيطي ليه مش هي اللي أتجوزته بارادتها برغم رفضكم لجوازهم، و دلوقتي راضية باللي بيعمله فيها، يبقي سبيها تتحمل نتيجة اختيارها”

وقفت الأخري تستند بظهرها إلي حائط مبني قديم
“يا هند أنتي شوفتي بعينيكي اللي عمله فيها، أسيبها لحد ما في يوم يخلص عليها؟!، حب إيه اللي يخليها ترمي كرامتها تحت رجل واحد محسوب علينا راجل، ده ملعون أبو الحب اللي يهين الواحد”

اكتفت هند بهز رأسها أسفاً علي ما يحدث، و داخلها تتذكر ما هي مكلمة أخرى عليه، زواجها في منزل حماتها يقلقها للغاية لكن حب جمال لها الدافع الذي يجعلها تطمئن أن لا يسمح بأحد أن يتعدي عليها بقول أو فعل حتي لو كانت والدته.

※ ※ ※

“و بكدة خلصنا Unite 6، و الحصة الجاية عندكم exam علي كل اللي فات”
صدح رنين انتهاء المحاضرة، و كانت ابتسام تلملم دفترها والكتاب و تضعهما داخل حقيبة المدرسة

“ابتسام؟”
انتبهت إلي نداء معلمها، نهضت وأجابت بتوتر
“نعم يا مستر؟”

أشار إليها
“تعالي”

ذهبت إليه وتستمع إلي همس زميلاتها، اقتربت منه فسألها باهتمام
“ماما و كلمة أخرى عاملين إيه دلوقتي؟”

أومأت إليه بطيف ابتسامة
“الحمدلله بخير، شكراً لحضرتك علي وقفتك معانا امبارح”

ابتسم إليها وفي عينيه آلاف الكلمات تخطها نظرة تجعلها كلما تنظر صوبه يخفق قلبها بشعور غريب.
“كدة أزعل، لأن زي ما قولت مفيش شكر ما بينا، و لو احتاجتي أي حاجة في أي وقت أنا موجود، رقمي عندك علي الملازم، اتفقنا؟”

هزت رأسها بالموافقة، و كادت تستأذن بالعودة إلي المقعد لكنه اوقفه بسؤال تخشي اجابته
“ألا قوليلي، هو مين الشاب اللي كنتِ راكبة معاه الموتوسيكل؟”

“ده، ده يبقي في مقام أخويا و ساكن معانا في الحارة، كان بيوصلني حتي استأذن من ماما”
كان التوتر واضحاً علي ملامحها و يديها المتشابكة في بعضهما البعض، و تجنبها للنظر صوب عينيه وهي تخبره، كل ذلك يعني إنها تكذب، فقال لها بنظرة مبهمة
“تمام يا ابتسام، يلا روحي اقعدي مكانك وماتنسيش ميعاد الدرس بكرة”

“حاضر يا مستر”
عادت سريعاً ومن طرف عينيها وجدته مازال يحدق إليها بنظرة زادت من قلقها أكثر.

※ ※ ※

ولج للتو من الخارج يبحث عن والدته فوجدها تجلس أمام التلفاز وتقطع الخضروات، ألقي التحية فأجابت، جلس بجوارها في تردد فيما سيخبرها به حول موضوع زواجه و المكوث معها في منزل العائلة

“عايز تقول إيه يا جمال؟”
سؤالها أدهشه، نظر إليها بتعجب فتابعت
“أنا مربياك و حفظاك، لما تكون عايز حاجة و خايف لأقولك لاء بتيجي جمبي تقعد وعمال تقول في نفسك أقولها و لا لاء”

أخفي توتره خلف ابتسامة يخبرها
“حبيبتي يا أمي، أنا فعلاً عايزك في موضوع بخصوص… ”

ظل متردداً لثوانٍ فقالت له
“عايز تعيشوا أنت و مراتك معايا هنا و خايف لأرفض”

كاد يعقب فقاطعته مردفه
“و مين قالك إن هارفض، بالعكس ده أنا كنت هقولك كدة بس قولت خطيبتك مش هاترضي و خصوصاً أمها اللي ما بطقنيش”

“يا أمي، خالتي أم هند طيبة و بتحبـ… ”

قاطعته بإشارة من يدها
“لا عايزها لا تحبني و لا عايزة منها حاجة، أنا كل اللي يهمني هو أنت و بس، طالما مبسوط و مرتاح يبقي خلاص، علي العموم أبقي أعرض الموضوع علي حماك و شوف هيقولك إيه”

“حمايا وحماتي وهند كلهم موافقين”

رفعت جانب شفتيها بتهكم
“و أنا آخر من يعلم؟!”

“لاء أبداً يا أمي، أنا قولت أشوفهم هيوافقوا الأول و لا لاء وبعدين أبلغك، و إيه رأيك أن اللي شار عليا كدة هند بنفسها”

“والله؟!، طيب ماشي”
شعر بأن والدته لم تصدقه، لأنه يدرك جيداً ما بين حبيبته وبين والدته من مشاحنات ومواقف سابقة تركت سد منيع بينهما.

“طيب و ربنا هي اللي قالتلي تعالي نتجوز مع أمك لحد ما ربنا يفرجها عليك و ناخد إيجار برة، حتي أنا ذات نفسي استغربت”

“من غير ما تحلف يا ولاه أنا مصدقاك، و ما تقلقش أنا هابقي أمها التانية”

“بجد يا أمي؟”

ينضح الفرح من عينيه فأجابت بتوكيد
“طبعاً طبعاً يا حبيب قلب أمك، و حتي كمان هسيبكم أول أسبوعين وهاروح أقعد عند أختك دلال، أهو مني أونسها بدل ما قاعدة لوحدها لحد ما جوزها يرجع من السفر و منها أخد بالي منها”

و بسعادة عارمة عانق والدته
“حبيبتي ياماه، ربنا ما يحرمنا منك يا غالية”

ربتت علي ظهره بقوة
“و لا منكم أنت و أخواتك يا غالي يا ابن الغالي”

وإذا اختفت النوايا في الصدور، يكفي ما تبوح به العيون من ما يدور.

※ ※ ※

تخرج الطالبات من البوابة المفتوحة علي مصراعيها، وبمجرد أن عبرت منها سمعت هاتفها يصدح بالرنين، فما غيره الذي يتصل بها منذ الصباح وهي لا تجيب عليه، مما جعلته ينتظرها بالقرب من المدرسة.

“واقفة ليه يا بوسي، يلا تعالي هنركب توكتوك”

“معلش يا سمر روحي أنتي أركبي معاهم، أنا هاتمشي عشان هاشتري حاجات لماما”

“تمام، خدي بالك من نفسك، يلا سلام”

اومأت الأخرى إليها وسارت بخطوات سريعة إلي احدى الشوارع الجانبية الشاغرة من المارة
و لم تنتبه إلي زوج من العيون الرمادية تراقبها.

و إذا بقدميها ولجت إلي الشارع الهادئ لتجيب علي الإتصال فشعرت بيد علي كتفها تدفعها برفق نحو مدخل بناء مهجور، شهقت بخوف
“عثمان؟”

كان الكلمة أخرى يندلع من عينيه
“أيوة الزفت اللي عمال يتصل عليكي من إمبارح و أنتي منفضاله، و الصبح و أنتي رايحة المدرسة عمال أشاورلك تقابليني في الحتة بتاعتنا كبرتي دماغك و روحتي مشيتي مع صاحبتك”

“امبارح زي ما أنت عارف اللي حصل مع كلمة أخرى و الحمدلله الموضوع أتحل ورجعنا و مكنش ينفع أرد عليك، و الصبح حصل برضو حوار عند أحلام أختي حتي سيبتهم و مشيت عشان ما أتأخرش، يعني كله كان غصب عني”

كانت نبرتها توحي أنها علي وشك نوبة من البكاء، زفر بضيق من حاله، اقترب منها ووضع يده علي ذراعها
“خلاص حقك عليا ما تزعليش، أنا بس كنت قلقان عليكي”

قد سارت قشعريرة يصاحبها حذر من لمسته علي عضدها، أبعدت يده
“أوعي إيدك أنا زعلانة منك، عشان مش أول مرة تقعد تزعق فيا، ده غير بشوف في عينيك نظرات شك أن بكذب عليك”

“مين قال كدة، أقسم بالله أبداً، ده أنا ممكن أشك في الناس كلها إلا أنتي، أنتي روحي يا بت”

نظرت إلي أسفل بخجل فصاح مهللاً
“الله أكبر علي حلاوة مراتي يا ناس”

اتسعت عينيها بكلمة أخرى
“مراتك؟”

“أيوة بعتبرك مراتي قدام ربنا، ادعيلي بس أموري تتظبط و أجي أطلب إيدك من خالتي عزيزة”

انقباضه في قلبها حدثت للتو، فهو ليس الشخص الذي تتمناه، كم تحلم بأن تتزوج من رجل خارج الحارة البائسة، ذو مهنة تفتخر بها أمام عائلتها ومعارفها، و ليس صبي ميكانيكي يحصل علي أجرة يومية تكفي مصاريفه الخاصة.

“مالك ساكتة ليه؟، أنا افتكرتك هتزغرطي من الفرحة لما قولتلك هاطلب إيدك”

اتقنت إظهار ابتسامة علي شفتيها يتبعها قولها
“بالعكس، أنا فرحانة ومبسوطة جداً، بس كل اللي طلباه منك تصبر شوية لحد ما أدخل الجامعة، مش هاينفع أتجوز و في نفس الوقت أدرس، هيبقي صعب عليا”

ابتسم ليلقي عليها مخططه
“عادي يا حبيبتي نتجوز وتدرسي وأنتي معايا، و بين إيديا و في كلمة أخرىي و… ”
توقف عن الحديث ليفاجئها بالتقاط شفتيها في كلمة أخرى حميمية، دفعته بكل قوتها
“قبل كدة عملتها وحذرتك إنك لو كررتها تاني مش هاتشوف وشي بعدها”

“حقك عليا يا بوسي أنا والله… ”
كاد يقترب منها بندم فصاحت وتبتعد بمسافة
“إياك تقرب مني، المرة اللي فاتت وعدتني، و برضو مفيش فايدة”

تركته وغادرت مدخل البناء المهجور لتجد أمامها آخر ما تتمني أن تراه في تلك اللحظة، نبضات قلبها وكأنها علي وشك أن تتوقف ولسانها يتفوه بصوت يكاد يكون مسموعاً
“مستر حسن؟”

※ ※ ※

ولج من الباب الزجاجي و وجهه ينذر بما هو جاء من أجله، قد قرر أن لا يصبح تحت ضغط تهديدات والده مرة أخرى بل مرات عديدة.

“مستر يوسف”
كان نداء احدى الموظفات تلحق بخطواته السريعة حتي وصل إلي المصعد، توقف أمامها يرفع يده برفض
“أي حاجة عايزة تبلغيني بيها أطلعي قوليها لمستر نور أو رأفت بيه”

ولج إلي داخل المصعد وضغط علي زر الصعود فأنغلق الباب أتوماتيكياً أمام الفتاة التي عادت إلي غرفة المكتب بين زملائها و تخبرهم بما قاله لها يوسف، الابن المُدلل لدي عائلة الشريف.

و لدي رأفت الشريف يجلس خلف مكتبه، يراجع بعض الأوراق وبجواره تنتظر مساعدته ريثما ينتهي من توقيعه علي كل ورقة منها
“أعملي حسابك بكرة هنسافر نقضي يومين في الساحل”

دنت منه وقامت بتقبيل خده
“حبيبي يا فوفو، ربنا يخليك ليا يا بيبي”

حدق إليها بحزم يوبخها
“اللي حصل دلوقت أخر مرة يحصل هنا في الشركة، فاهمة؟”

أومأت إليه و الحزن جلي علي وجهها، أمسك يدها و كاد يخبرها معتذراً من أسلوبه الحاد معها، لكن فُتح الباب فجأةً دون أن يسبقه طرق أو استئذان ليظهر يوسف الذي صوب بصره نحو يد والده التي تمسك بيد مساعدته و علي مقربة شديدة من بعضهما البعض.

حمحم والده تاركاً يد مساعدته
“خدي أنتي الأوراق و روحي راجعيها”

لملمت الأوراق وعينيها لا تبرح عينين يوسف الذي يرمقها بنظرة اربكتها، عادت بالنظر إلي رأفت قائلة
“حاضر يا فندم”
و ذهبت أمام يوسف، فكان يجز علي أسنانه فهو ليس أحمق حتي لا يدرك ماهية ما رآه، هناك ما يفعله والده سراً.

“مش عيب يا أستاذ يا محترم تدخل عليا من غير ما تخبط الباب و تستني لما أسمحلك تدخل و لا لاء؟!”

عقد ساعديه أمام صدره و يتحدث من مركز قوة
“معلش يا رأفت بيه لو كنت قطعت علي حضرتك قعدتك مع سوزي السكرتيرة”

نهض والده يصيح بكلمة أخرى
“أنت إزاي بتتكلم معايا كدة يا ولد؟!، أنت نسيت نفسك و لا إيه؟!، أنا ممكن… ”

رفع يوسف يده ليقف والده عن إكمال تهديده المعتاد
“كفاية بقي كل ما نشد مع بعض تقعد تهددني بأنك هاتسحب مني العربية ورصيدي اللي في البنك، أنا أصلاً سيبتلك العربية في الفيلا و الكريدت كمان، أنا جيتلك النهاردة عشان أقدملك إستقالتي”

أخرج من جيب سترته الداخلي ورقة ووضعها فوق المكتب
“أتفضل”

همّ بالذهاب أوقفه والده
“استني عندك”

سار نحوه وكان الآخر يتحاشى النظر مباشرة إلي والده الذي أخبره
“أنا لو أب قاسي زي ما بتروح تقول لمامتك، كان زماني رزعك قلمين علي وشك دلوقت وندهتلك الأمن يطردوك قدام الموظفين عشان ما يبقاش ليك عين تدخل الشركة تاني”

“أنا… ”

قاطعه والده بحدة
“أنا لسه مخلصتش كلامي، أنا هحاول أتغاضي عن أي حاجة صدرت منك و لا كأني سمعت، و لأخر مرة مفيش بعدها مرة تانية، هديلك يومين تفكر فيهم، يا تعقل وترجع لمكانك في الشركة وتكمل نص دينك يمكن ربنا يهديك، يا إما أقسم بالله لهتشوف مني وش ما شوفتوش قبل كدة، مش هقولك إسطوانة كل مرة، لكن هتتفاجىء باللي عمرك ما هتتخيله، وأنت عارف أبوك كويس لما بيهدد مرة التانية بينفذ”

لم يستطع أن يتحمل توبيخ والده أكثر من ذلك، و حتي يضمن أن لا يتهور بحديث يجعله يخسر والده غادر غرفة المكتب، وقفت سوزي عندما رأته فحدق إليها بازدراء وذهب.

اصطدم بشقيقه في طريقه
“يوسف، اسـ… ”

لم يقف يوسف إليه ومضي سريعاً، تعجب نور لأمر شقيقه، ذهب إلي والده ليعلم منه ما حدث، و قبل أن يفعل ذلك نظر إلي سوزي التي عندما رأته انخرطت في البكاء، اقترب منها قلقاً عليها
“مالك يا سوزي فيه إيه؟، بابا زعلك أو يوسف؟”

قد قررت استغلال إعترافه بحبه إليها، وجدتها فرصة لا تعوض، فوالده غير مضمون و لا يعطي لها كل ما تريده من مال أو غيره من سيارة أو منزل، يكفي أنها زوجته في السر و عرفي أيضاً حتي لا يصبح لها حق في الإرث.

رفعت وجهها وأخذت تمسح بالمحرمة دموعها لتظهر أمام نور بالضعف لتمتلك قلبه أكثر
“مستر يوسف كان لسه عند رأفت بيه و شكلهم كانوا بيتخانقوا و أول ما خرج من المكتب بص لي من فوق لتحت بقرف من غير ما أعمله أي حاجة”

اقترب منها أكثر و أخرج من جيبه محرمة وأخذ يمسح لها دموعها
“معلش بالتأكيد مكنش يقصد، حقك عليا أنا، ممكن عشان خاطري كفاية دموع”

اقترب منها أكثر فأكثر حتي كادت تصبح بين ذراعيه يخبرها مردفاً
“ما أقدرش أستحمل دموعك، قلبي بيوجعني لما شوفتك في الحالة دي”

توقفت عن البكاء وداخلها يتراقص مثل الحية عندما تصل إلي هدفها، نظرت إليه و بصوت أنثوي رقيق للغاية
“مستر نور، أنا موافقة علي طلبك”

تراجع خطوة للوراء والدهشة تعلو ملامحه
“قصدك موافقة تتجوزيني؟”

هزت رأسها بالإيجاب وأخبرته بدهاء
“اه، بس علي شرط نعمل فترة تعارف زي الخطوبة نقرب منها انت تعرفني و أنا أعرفك”

اتسع ثغره بابتسامة عارمة
“شرطك أمر و أنا تحت أمرك يا روح و قلب نور”

“و فيه حاجة تانية كنت عايزة أعرفها”

“قولي يا حبيبتي”

“مراتك هاتعرف و لا أنت هتخبي عليها و جوازنا هيبقي في السر؟!”

برغم ما يشعر به من توتر عندما أتت له بذكر زوجته وعواقب قراره الأهوج، لكنه تحلي بالشجاعة والعزم أمامها
“أيوة هاقولها بس بعد ما نتجوز، و ما تقلقيش مش هتعمل أي حاجة، بالنسبة بقي لبابا… ”

داهم الخوف قلبها فقاطعته
“لاء، قصدي بلاش رأفت بيه يعرف بأي حاجة، أقل حاجة هيعملها معايا هيطردني من الشركة”

ابتسم مرة أخرى مما جعلها تتعجب من رد فعله الغريب، أوضح لها
“ما أنا كدة كدة أول ما هنتجوز هاقعدك من الشركة، و ما تقلقيش ليكي كل شهر مبلغ أضعاف مرتبك اللي بتاخديه هنا، غير العربية، غير الشقة أو الفيلا اللي هتشاوري عليها”

كم هي نادمة أنها عجلت في الموافقة علي الزواج من هذا الرأفت وبيع نفسها له بثمن بخس، و ها هو نجله كالمارد الذي يريد تحقيق كل أحلامها و هي من تملي شروطها أيضاً و ليس هو كما فعل معها والده.

“سرحتي في إيه يا سوزي؟”

انتبهت إليه وعادت من أفكارها الشيطانية قائلة
“بتخيل حياتي معاك هتبقي إزاي”

أمسك يدها يخبرها
“هتبقي جنة”

صدح رنين هاتف المكتب، ابتلعت ريقها وقالت
“ده رأفت بيتصل”

“ردي عليه و أنا كدة كدة راجع علي مكتبي، هاتصل عليكي بالليل نكمل كلامنا”

“تمام”
نظرت إليه مبتسمة، و بعد أن ذهب تلاشت ابتسامتها وجلست علي الكرسي تفكر كيف تلعب علي كلا الجانبين دون خسائر، بينما الضمير لديها في سبات بل في غيبوبة لن يستيقظ منها قط.

※ ※ ※

تجلس بجوار النافذة شاردة فيما يحدث من حولها، خسرت عملها الذي تقتات منه ورقات من المال تساعد مع معاش والدها، تُتهم بالسرقة وهي لن تقبل قرشاً من الحرام و ذلك كان ثمناً لأنها دافعت عن عرضها بكل ما أوتيت من قوة، و هناك أكبر همومها وهو أمر شقيقتها التي أصبحت كالجارية يفعل زوجها ما يشاء بها، كلمة أخرى، كلمة أخرى و هي تتقبل كل ذلك بصدر رحب، يكفي إنها تعيش علي ماله الآتي من بيع المخدرات، حرام يدخل البيت فيقلب حياتهما للجحيم فما العجب في ذلك؟!، و آخر الهموم كلما ذهبت إلي كل متجر للعمل يعتذر إليها صاحب المتجر بأنه ليس لديه وظيفة شاغرة لديها فتعود خالية الوفاض.

“بت يا كلمة أخرى”
كان صوت سماح الذي وقفت أسفل النافذة فأنتبهت إليها الأخرى بنفاذ صبر
“نعم يا سماح عايزة إيه؟”

“مالك ياختي متزرزره عليا كدة ليه؟!، الحق عليا جايبلك شغل وفلوسه حلوة أوي، أحسن من مرمطك في المتروهات بشوية عبايات مضروبة”

زفرت الأخرى بضيق أوشك علي الكلمة أخرى
“انجزي يا سماح وقولي”

اقتربت من حافة النافذة تخبرها بصوت خافت تسمعه كلمة أخرى فقط
“بصي هبعتلك رقم واحدة علي الواتس هتتواصلي معاها، هي من أمريكا بس بتتكلم لبناني علي فلسطيني أو أردني، ما تفهميش جنسيتها إيه بالظبط، المهم هاتطلب منك بياناتك وصورة ليكي و هتبلغك بالمطلوب منك”

“و يا تري هي مين الست دي و إيه اللي هاتطلبه مني؟!”

تراقب الأجواء من حولها حتي لا يسمعها أحد سوي كلمة أخرى
“بصي اسمعيني للأخر من غير ما تقطعيني، هي كل اللي هتطلبه منك مقاطع فيديو ليكي مخبية وشك و لا بسه هدومك عادي مرة وأنتي بترتبي أوضتك، مرة و أنتي بتطبخي، أي حاجة أنتي بتكنسي مثلاً أو بتمسحي، بس تكوني باينة كلك علي بعضك، و هتاخدي علي المقطع الواحد 200 دولار، و أنتي و شطارتك لو عملتي مقطعين و لا أربعة و لا خمسة في الأسبوع الواحد، أحسبي بقي كمان لما يتحولوا بالمصري”

عقبت الأخرى بسخرية
“و يا سلام بقي لو الهدوم خفيفة و اللي تحتها باين و لا تكون مبلولة و لازقة عشان تجيب فلوس أكتر صح؟”

ابتسمت سماح كالحمقاء
“برافو عليكي، طول عمرك ناصحة”

هنا لن تعد كلمة أخرى في تحمل أمر أخر، صاحت بصوت وصل إلي جميع سكان الحارة
“بقولك إيه يا سماح، أنا سيباكي يا حبيبتي تتكلمي و تقولي كل اللي عندك عشان أقطع الشك اللي جوايا و أكذب اللي بسمعه عنك علي كل لسان رجالة وشباب حتي الصبيان الصغيرة في الحارة، أتاريهم عندهم حق و ما خفايا كان أعظم، عايزاني أعمل زيك ألبس المحزث و الملزق والشفاف و أتصور فيديوهات عشان إيه، شوية دولارات أخسر بيهم دنيا وأخرة و سمعتي؟!”

كانت تتوقع أن الأخرى تبتعد أو تخشي الرد لكن حدث نقيض ذلك
“مالك يا بت شايفة نفسك عليا كدة ليه، فاكرة نفسك مين يا ختي، و الكلاب اللي بيجيبوا في سيرتي أخواتهم وأمهاتهم فيديوهاتهم مالية التيك توك يعني لا تعايرني و لا أعايرك، و اللي بيته من إزاز ما يحدفش الناس بالطوب يا عينيا”

تجمع المارة وبعض الجيران فتدخل سعيد شقيق كلمة أخرى
“أخواتنا وأمهاتنا أشرف منك يا سماح، و لا الوسخ فاكر كل الناس وسخة زيه”

صاحت كلمة أخرى في شقيقها
“واد يا سعيد ما تدخلش في الكلام و أدخل جوة”
ثم ألتفت إلي سماح و تمسك بخشب النافذة قائلة
“و أنتي يا أخت سماح روحي أتكلي علي الله ربنا يهديكي أو يهدك، المهم تريحنا منك، عن إذنك”
اوصدت النافذة في وجهها و تركتها تتشدق كالتي فقدت عقلها حتي توقفت عن الصياح عندما رأت عاطف يحدق نحوها بازدراء.

※ ※ ※

في صباح اليوم التالي…
“واد يا سعيد، بت يا ابتسام قوموا يلا جهزوا نفسكم عقبال ما أعملكم الفطار والسندوتشات”
تناديهم والدتهم، و كانت كلمة أخرى مازالت مستيقظة منذ الأمس، لم تأكل و لم تملك الرغبة في التحدث مع أحد، أثرت الصمت حتي لا تزيد من الآلام داخلها، و كيف لا تزيد و تجد كل أبواب العمل مغلقة مهما سعت إليها.

اكتفت ابتسام بالرد علي والدتها
“ما تعمليش حسابي يا ماما، أنا مش رايحة المدرسة النهاردة”

و صدح صوت سعيد أيضاً
“و أنا مش رايح عشان المستر حلف علينا إمبارح اللي مش هيدفعله فلوس المجموعة مش هيدخله المدرسة”

ولجت والدتهم إلي الغرفة تسأل ابنتها
“و أنتي يا ست ابتسام يا أم ثانوية عامة، مش هاتروحي ليه؟”

لو تعلم السبب الحقيقي لعدم ذهابها إلي المدرسة و هو تخشى و تخجل في آن واحد من رؤية معلمها الذي رآها تخرج من منزل مهجور و خلفها عثمان يناديها، تلاقت عينيها برماديتين حسن الذي حدقها بكلمة أخرى شديد، لم تملك الشجاعة لتكذب علي سبيل الدفاع عن نفسها، و اختارت الفرار من أمامه غير مكترثه لنداء عثمان.

“تعبانه شوية و مش قادرة، و بعدين معظم اصحابي مش بيروحوا، أنا اللي بيخليني أروح عشان ما باخدش درس غير الإنجليزي و الرياضة و باقي المواد معتمدة علي شرح المدرسين اللي ما بيشرحوش أصلاً”

نهضت كلمة أخرى و أخيراً تخلت عن صمتها
“واد يا سعيد قوم ألبس و روح و أنا إن شاء الله قبل جرس المرواح هتلاقيني عندك، هدفعلك الفلوس”

و أخبرت شقيقتها
“و أنتي شوفي عايزة تاخدي درس في مواد إيه و مع مين و قوليلي المبلغ المطلوب و هيبقي عندك علي بكرة”

“و هاتجيبيلهم منين يا بنتي، ده المعاش فاضل منه 500 جنيه و إحنا يا دوب في نص الشهر”
كان حديث عزيزة وتشعر بالحزن نحو ابنائها، فهي تعجز عن تقديم لهم كل ما يحتاجونه، فهي صاحبة مرض مزمن يجعلها غير قادرة علي العمل.

كانت كلمة أخرى قد فتحت الخزانة و أخذت المال المتبقي معها و مدت به يدها إلي والدتها
“اتفضلي يا أمي خلي دول معاكي وبإذن الله هتفرج من عند ربنا”

و نظرت نحو حقيبة الملابس المليئة بملابس قد اشترتها و قامت بتخزينها إلي أن تصبح عروسا!

※ ※ ※

و في مكان آخر في حي المعادي كان قد استيقظ للتو من أجل الذهاب إلي عمل مقابلة في إحدى الشركات، بعد أن رأي الإعلان عن طلب مديرين تسويق علي صفحة خاصة بالوظائف علي موقع التواصل الإجتماعي الشهير.

“أنت رايح فين علي الصبح يا يوسف؟”

ألتفت الأخر إلي صاحبه و أخبره
“رايح interview في شركة طالبة التخصص بتاعي”

اقترب منه صاحبه متعجباً
“أنا هاتجنن منك، يبقي باباك رأفت بيه الشريف صاحب أشهر براند في مصر و مصانع وسلسلة محلات في كل محافظة و رايح تقدم علي شغل في شركة تانية يا عالم دول صادقين و لا نصابين؟!”

انتاب الأخر حالة من الضيق فنظر إلي صاحبه بامتعاض
“لأن ما بحبش التحكمات والتهديد كل شوية، و أنا هوري بابا و نور إن من غيرهم قادر أعيش و اعتمد علي نفسي”

“غلط يا يوسف، أنت صاحبي و بعزك جداً، و والصاحب لما بيشوف صاحبه في شدة يقف جمبه و يقدم له النصيحة اللي توصله لبر الأمان، و الأمان أنك تكون مع عيلتك، تكون في ضهر باباك و أخوك، هم عايزين مصلحتك و أنت فاهمهم غلط، أدي لنفسك فرصة تانية وقرب منهم مش يمكن حالك يبقي أحسن؟!”

ابتسامة ساخرة غزت شفتيه
“الأحسن إن أعمل نفسي بنفسي، مش أعتمد علي حد حتي لو كانوا أهلي”

※ ※ ※

“أي عباية وأي فستان بـ 200 جنيه وبس، يلا عرض خاص و مش هايتكرر، كل قطعة بالتيكت بتاعها، و اللي هتاخد 3 قطع هعملها خصم 100 جنيه”
ظلت تكرر حديثها داخل القطار و تقوم بعرض الثياب أمام أنظار السيدات و الصبايا، تم بيع القليل من القطع و بدأ توافد النساء عليها للشراء، توقف القطار في المحطة و ولجت بائعة علي معرفة بها، اقتربت منها لتخبرها بهمس
“انزلي المحطة الجاية عشان اللي بعدها فيها تفتيش، و الظابط المسئول هناك أجارك الله من رخامته وشره”

“تسلميلي يا حنان”
لملمت سريعاً الثياب من أيادي السيدات
“معلش يا جماعة أنا هنزل المحطة الجاية”

و في مكان آخر ليس ببعيد يقف في حيرة من أمره بعد أن كاد يطلب رحلة من تطبيق التوصيل للذهاب إلي الشركة، وجد المبلغ المطلوب أكبر من ما يملكه حالياً.
ألقي نظرة علي عنوان الشركة فوجده يقع بالقرب من محطة قطار تبعد عن الحي بثلاث محطات، أخذ يلتفت حوله فوجد إنه علي مقربة من محطة المعادي، شعر بالجوع فهو لم يأكل منذ أمس، وجد مطعم خاص بعمل الشطائر و الأكلات الشعبية كالفول و الفلافل،
ذهب وقام بشراء اربع شطائر جبن مقلي و سار نحو المحطة من الخارج باحثاً عن مكان ليجلس فيه و يتناول فطوره، وجد متجر لبيع العصائر الطازجة يوجد به مقاعد للإستراحة، جلس بعد أن طلب من البائع
“عصير قصب لو سمحت”

سأله الرجل
“صغير و لا كبير يا كابتن؟”

نظر إلي ما تبقي معه من مال وقال
“صغير وعايز إزازة مياه”

أشار الرجل إليه نحو براد عرض المشروبات الباردة وزجاجات المياه المعدنية
“أتفضل عندك أزايز المياه في التلاجة”

رفع جانب فمه بسخرية، يتحدث بتهكم علي ما يحدث معه
“فينك يا منيرة هانم، تيجي تشوفي ابنك مش معاه يركب أوبر و هيشرب عصير قصب”

أخذ زجاجة المياه من البراد و جلس علي المقعد ليتناول الشطائر أولاً.

و أمام المتجر علي الجهة المقابلة تقف وتحمل الحقيبة البلاستيكية المليئة بالثياب، تشعر بالعطش الشديد و بعض الدوار، فهي لم تأكل أيضاً منذ أمس و ربما من قبل.

عبرت الطريق وذهبت لتستريح قليلاً علي مقعد شاغر، ترفع يدها إلي البائع
“لو سمحت يا عم جمعة واحد قصب صغير و كوباية ميه”

ابتسم إليها البائع قائلاً
“يا صباح النور، عاش من شافك يا كلمة أخرى، بقالك فترة ما بتجيش”

“ما بنزلش المعادي كتير، ما أنت عارف الناس هنا ما لهمش في البضاعة اللي بتلف المترو، دول زباين سيتي ستارز، كايرو فيستڤال، شغل ماركات عالية مش شغل التقليد و لا المحلي اللي معانا”

كان الذي يتناول فطوره منتبهاً إلي الحديث خاصة مع صاحبة الصوت المألوف لديه، يريد رؤية وجهها لكنها تجلس موليه ظهرها إليه

بينما عقب عم جمعة
“و الله يا كلمة أخرى ما كلهم، ما تخدعكيش المظاهر، ممكن واحد لابس بدلة شيك و أحدث موديل لزوم الوجاهة لكن لو دورتي في جيبه معهوش غير حق المواصلات”

توقف الأخر عن الأكل و حدق إلي البائع بحنق، يقول في نفسه
“يا عم ده أنت لو قاصد تلقح مش هتقول كدة”

ردت كلمة أخرى علي حديث البائع قائلة
“علي رأيك يا عم جمعة، ربنا عالم بحال كل واحد فينا، ربنا يرزقنا جميعاً”

“آمين يارب”
أخذت الكوب و شربت العصير و يليها كوب الماء

“عايز حاجة مني يا عم جمعة؟”
أخرجت ورقة بفئة الخمس جنيهات و تعطيها إليه، رفع الأخر يده برفض
“و الله ما هاخد و لا مليم، و مش عايز حاجة منك غير تيجي تسلمي عليا، و لا محتاجة أي حاجة أنا زي والدك الله يرحمه”

ابتسمت الأخرى واخبرته بإمتنان
“تسلم الله يباركلك”

رفعت الحقيبة الكبيرة واستدارات لتغادر فتعثرت في مقعد مقلوب، وقعت الحقيبة وتناثرت أغلفة قطع الثياب و هي كانت علي وشك أن تقع، نهض يوسف وأمسك ساعدها
“حاسبي”

نظرت إليه و اتسعت عينيها، تمتلك ذاكرة حديدية، سرعان قامت بالتعرف عليه
“أنت اللي كان مقبوض عليك أداب في قسم دار السلام أول إمبارح؟”

جز علي أسنانه بحنق ثم وجه إليها كلمة أخرى مماثلة
“ما أنا برضو فاكرك، مش أنتي اللي كان مقبوض عليكي في تهمة سرقة برضو؟”

ابتسامة صفراء زينت ثغرها يليها رد هازء
“دي كانت تهمة متلفقة و الحمدلله أفرجوا عني بعد ما ظهرت برائتي، الدور و الباقي علي الممسوك أداب”

كان سيخبرها بدفاع عن حاله إنه لا علاقة له بتلك التهمة و لا يعلم لما يبرر لها، لكن ما لفت انتباهه بقوة أغلفة الثياب المدون عليها العلامة التجارية الخاصة بشركات والده، أخذ القطعة و دقق النظر في البيانات المدونة علي الغلاف، أخرج الثوب منه و قام بلمسه و فحصه ليكتشف أن تلك القطعة تقليداً لما ينتجونه.

“هات الفستان خليني أمشي، و لو هاتشتريه بـ 200 جنيه”

ابتسم إليها وعقب ساخراً
“يعني مقلدين براند أقل فستان فيه ما يقلش عن 2000 جنية و كمان بتبيعوه بـ 200، لاء واضح إنك بريئة من السرقة بس نصابة كبيرة”

ارتجفت من داخلها لكنها صاحت في وجهه
“أنت بتبرطم بإيه يا جدع أنت، أنا و لا حرامية و لا نصابة، أنا شارية الهدوم دي من محل عندنا، روح أسألها بنفسك لو مش مصدقني”

اختطف الحقيبة من يدها و بيده الأخرى يجري مكالمة هاتفية
“أيوة يا نور، هابعتلك الـ location تعالي و هات معاك المسئول القانوني والرجالة و تعالوا بسرعة”

“هببت إيه تاني يا يوسف؟”

ابتسم بظفر و يرى كلمة أخرى تقف أمامه تحاول استيعاب ما يتفوه به، أجاب علي شقيقه
“لاقيت مين اللي بيكلمة أخرى بضاعتنا في السوق”

يتبع…
*الفصل السادس*
كلمة أخرى في المترو
بقلم ولاء رفعت علي

ولج للتو من باب الشركة الزجاجي، يستقبله كل ما يقابله من الموظفين بحفاوة و ترحاب لا يخلو من الإطراء و التملق، فهو ابن ربيب عملهم والمدير التنفيذي للشركة، بيده الكثير من الأمور والمسئول الثاني بعد والده مالك مجموعة «Y&N».

صعد عبر الدرج بخفة حتي وصل إلي الطابق المنشود الذي يوجد به مكتب والده أو المكتب الذي يسبق غرفة والده حيث تجلس ذات العيون التي تأسر قلوب الرجال من النظرة الأولي، خبيرة في العزف علي أوتار قلب كل من يقترب منها لاسيما ذوي الأفئدة التي تركض خلف كل ما هو جميل وصعب في آن واحد.

تحمحم قبل أن يعبر الباب، رفعت عينيها عن الأوراق التي تقوم بتحضيرها ريثما يأتي مديرها أو زوجها!
نهضت بخجل متقن للغاية، تنظر إلي أسفل
“مستر نور؟، أهلاً وسهلاً بحضرتك، أنا كنت بخلص مراجعة الإيميلات بعد ما طبعتها، هخلصها وهبعتها لرأفت بيه”

جلس علي الكرسي أمام مكتبها مبتسماً، عينيه تتجول بجرأة سافرة علي ملامحها وجسدها، انتبه إلي انها تلاحظ فحصه الشامل لها، حمحم مرة أخري ليخبرها
“أتفضلي أقعدي يا آنسة سوزي”

ابتسمت وليتها ما ابتسمت، يبدو أن درجات الحرارة ترتفع، ربما المكيف معطل، ألقي نظرة خاطفة وجده يعمل و علي درجة حرارة علي نقيض درجة حرارة جسده للتو.

“أنا جايلك مش جاي للشغل”

علامة استفهام تنضح من عينيها ذات الكحل الأسود القاتم و الأهداب الكثيفة، أكمل دون مقدمات ليس لها فائدة، شخص عملي مثله لايملك وقتاً للمرواغة فالأفضل إليه التحدث مباشرة
“بصراحة من وقت ما قدمتي هنا في الشركة و أنا نفسي أتعرف عليكي أكتر، أقرب منك، اللي حسيته إعجاب و مع الوقت الإعجاب قلب لحب، من الأخر و من غير لف و دوران أنا بحبك وعايز أتجوزك”

※ ※ ※
طرق عنيف بكفيها علي باب منزل شقيقتها وصياح وصل إلي القاصي والداني
“أفتح يا سمير يا عرة الرجالة، بتعمل علي أختي دكر؟!، أفتح و أنا هخليك عبرة يا حيوان”

خرج الجيران ينظرون بشماتة في هذا الجار المؤذي الذي يعتدي علي زوجته بالكلمة أخرى والشتائم المهينة، اخبرتها احداهن
“ما تسيبهوش غير لما تاخدي حق أختك الغلبانة منه، يا عيني عليها طول الليل عمالة تصرخ و هو عمال يكلمة أخرى فيها”

ألتفت إليها كلمة أخرى وبكلمة أخرى سألتها
“و لما أنتم سامعين اللي بيعملوا فيها الكلب ده، ما كسرتوش الباب علي دماغه و خدوتها و كلمتوني؟”

نظرت السيدة إلي الأسفل بحرج فاجابت الأخري
“ما أنتي عارفة يا كلمة أخرى اللي فيها، كل ما نيجي نحوشها منه يتجنن علينا وتقوم هي تزعق فينا وتقولنا ملكوش دعوة، واحد ومراته بيتخانقوا، أنتم ليه بتدخلوا في اللي مالكوش فيه”

زادها الحديث كلمة أخرىاً، كأنه وقود انسكب علي النيران فازدادت اشتعالاً، ألتفت نحو الباب في محاولة بائسة
“أفتح يا جبان، خايف مني؟، و الله لو ما فتحت لأنطلك من الشباك و هاجي أجرك من قفاك زي الخروف يا… ”

فتح الباب فظهر لها بشجاعة زائفة، يصيح بصوت جهوري
“جري إيه يا بت فيه إيه؟!، هو أنا عشان ساكتلك لأنك أخت مراتي يبقي هتكلمة أخرى فيها وتقلي أدبك علي واحد المفروض تقوليله يا أبيه”

“بت ما تبتك، أنا أختي هخلصها منك و من شرك يا شيطان، بس قبل ما أعمل كدة لازم أخد لها حقها، أنت مقطعلها جسمها بالحزام و أنا هقطعلك وشك بالشبشب”
لم تكن لديه فرصة استيعاب ما تفوهت به للتو، في ثوانٍ خلعت نعلها ذو الكعب الثقيل وأخذت تكيل إليه كلمة أخرىات عشوائية يصاحبها كلمات مهينة إليه، قابل ذلك برفع ساعديه للدفاع عن وجهه ويصرخ بوعيد و سباب يزيدها كلمة أخرىاً وتستمر في كلمة أخرىه، حتي جذبتها يد ذات قبضة ضعيفة، تصرخ صاحبتها
“كفاية يا كلمة أخرى”

ابتعدت الأخري تنظر إلي شقيقتها التي أكملت وتقف بينها و بين زوجها في وضع الدفاع عنه أمام الجيران وهند التي أتت برفقة جمال وعاطف حيث لحقوا بكلمة أخرى قبل أن ترتكب جريمة في هذا السمير

“إيه اللي عملتيه في جوزي ده؟!، أنا مطلبتش منك تاخدي لي حقي”

كان زوجها يتأوه واضعاً كفه علي رأسه التي اصابها جرح من أثر الكلمة أخرى
“ألحقيني يا حلومتي، أختك المفترية جت فضحتني قدام الجيران و كمان مدت شبشبها عليا، وإيه ده”

نظر إلي كفه وجد الدماء فصاح بهلع يثير ضحك الآخرين
“دم، أختك سيحت دمي يا أحلام”

ألقت كلمة أخرى نعلها علي الأرض في كلمة أخرى غير مبالية لهذا الأبله تسألها
“كنتِ عايزاني أعمل معاه إيه بعد ما شوفت اللي عمله فيكي؟!، أسقفله و أقوله برافو عليك؟!”

ابدت قوة ليست من خصالها
“حتي لو قطعني حتت ملكيش حق تعملي اللي عملتيه، و اللي حصلي يخصني أنا”

لم تصدق كلمة أخرى مدي ضعف واستسلام شقيقتها
“إيه يا بنتي الضعف و انعدام الكرامة اللي بقيتي فيه ده؟!، لسه بتدافعي عنه و بتحامي له؟!، ده لو ماسك عليكي ذله مش هتعملي كدة في نفسك”

ابتلعت الأخرى لعابها دون أن تظهر التوتر الذي داهم داخلها، أخذت تلتفت من حولها فوجدت الجيران و هند و جمال وعاطف جميعهم ينظرون إليها بامتعاض
“يا ستي أنا حرة، جوزي و بحبه و مش أول ولا أخر مرة بنتخانق، ياريت تاخدي صاحبتك واللي معاها وتمشوا من هنا”

و حدقت إلي جيرانها و صاحت
“و ياريت كل واحد فيكم يخليه في حاله وبطلوا تحشروا نفسكم في حياتي”

هزت كلمة أخرى رأسها لما تسمعه و تراه، خرج كلا من جمال وعاطف من الفناء، امسكت هند كلمة أخرى من عضدها تجذبها إلي الخارج
“يلا يا كلمة أخرى هي اللي اختارت، سبيها براحتها”

و قبل أن تغادر برفقة صديقتها صرخت بوعيد
“عارفة لو قالوا لي يا أحلام إنه بيولع فيكي مش هسأل و لا هعبرك”

تركتها و ذهبت، قلبها يتألم من أجل شقيقتها بالرغم من رد فعلها العجيب و ضعفها المقيت، أخذت تبكي بانهيار، ربتت هند عليها
“بتعيطي ليه مش هي اللي أتجوزته بارادتها برغم رفضكم لجوازهم، و دلوقتي راضية باللي بيعمله فيها، يبقي سبيها تتحمل نتيجة اختيارها”

وقفت الأخري تستند بظهرها إلي حائط مبني قديم
“يا هند أنتي شوفتي بعينيكي اللي عمله فيها، أسيبها لحد ما في يوم يخلص عليها؟!، حب إيه اللي يخليها ترمي كرامتها تحت رجل واحد محسوب علينا راجل، ده ملعون أبو الحب اللي يهين الواحد”

اكتفت هند بهز رأسها أسفاً علي ما يحدث، و داخلها تتذكر ما هي مكلمة أخرى عليه، زواجها في منزل حماتها يقلقها للغاية لكن حب جمال لها الدافع الذي يجعلها تطمئن أن لا يسمح بأحد أن يتعدي عليها بقول أو فعل حتي لو كانت والدته.

※ ※ ※

“و بكدة خلصنا Unite 6، و الحصة الجاية عندكم exam علي كل اللي فات”
صدح رنين انتهاء المحاضرة، و كانت ابتسام تلملم دفترها والكتاب و تضعهما داخل حقيبة المدرسة

“ابتسام؟”
انتبهت إلي نداء معلمها، نهضت وأجابت بتوتر
“نعم يا مستر؟”

أشار إليها
“تعالي”

ذهبت إليه وتستمع إلي همس زميلاتها، اقتربت منه فسألها باهتمام
“ماما و كلمة أخرى عاملين إيه دلوقتي؟”

أومأت إليه بطيف ابتسامة
“الحمدلله بخير، شكراً لحضرتك علي وقفتك معانا امبارح”

ابتسم إليها وفي عينيه آلاف الكلمات تخطها نظرة تجعلها كلما تنظر صوبه يخفق قلبها بشعور غريب.
“كدة أزعل، لأن زي ما قولت مفيش شكر ما بينا، و لو احتاجتي أي حاجة في أي وقت أنا موجود، رقمي عندك علي الملازم، اتفقنا؟”

هزت رأسها بالموافقة، و كادت تستأذن بالعودة إلي المقعد لكنه اوقفه بسؤال تخشي اجابته
“ألا قوليلي، هو مين الشاب اللي كنتِ راكبة معاه الموتوسيكل؟”

“ده، ده يبقي في مقام أخويا و ساكن معانا في الحارة، كان بيوصلني حتي استأذن من ماما”
كان التوتر واضحاً علي ملامحها و يديها المتشابكة في بعضهما البعض، و تجنبها للنظر صوب عينيه وهي تخبره، كل ذلك يعني إنها تكذب، فقال لها بنظرة مبهمة
“تمام يا ابتسام، يلا روحي اقعدي مكانك وماتنسيش ميعاد الدرس بكرة”

“حاضر يا مستر”
عادت سريعاً ومن طرف عينيها وجدته مازال يحدق إليها بنظرة زادت من قلقها أكثر.

※ ※ ※

ولج للتو من الخارج يبحث عن والدته فوجدها تجلس أمام التلفاز وتقطع الخضروات، ألقي التحية فأجابت، جلس بجوارها في تردد فيما سيخبرها به حول موضوع زواجه و المكوث معها في منزل العائلة

“عايز تقول إيه يا جمال؟”
سؤالها أدهشه، نظر إليها بتعجب فتابعت
“أنا مربياك و حفظاك، لما تكون عايز حاجة و خايف لأقولك لاء بتيجي جمبي تقعد وعمال تقول في نفسك أقولها و لا لاء”

أخفي توتره خلف ابتسامة يخبرها
“حبيبتي يا أمي، أنا فعلاً عايزك في موضوع بخصوص… ”

ظل متردداً لثوانٍ فقالت له
“عايز تعيشوا أنت و مراتك معايا هنا و خايف لأرفض”

كاد يعقب فقاطعته مردفه
“و مين قالك إن هارفض، بالعكس ده أنا كنت هقولك كدة بس قولت خطيبتك مش هاترضي و خصوصاً أمها اللي ما بطقنيش”

“يا أمي، خالتي أم هند طيبة و بتحبـ… ”

قاطعته بإشارة من يدها
“لا عايزها لا تحبني و لا عايزة منها حاجة، أنا كل اللي يهمني هو أنت و بس، طالما مبسوط و مرتاح يبقي خلاص، علي العموم أبقي أعرض الموضوع علي حماك و شوف هيقولك إيه”

“حمايا وحماتي وهند كلهم موافقين”

رفعت جانب شفتيها بتهكم
“و أنا آخر من يعلم؟!”

“لاء أبداً يا أمي، أنا قولت أشوفهم هيوافقوا الأول و لا لاء وبعدين أبلغك، و إيه رأيك أن اللي شار عليا كدة هند بنفسها”

“والله؟!، طيب ماشي”
شعر بأن والدته لم تصدقه، لأنه يدرك جيداً ما بين حبيبته وبين والدته من مشاحنات ومواقف سابقة تركت سد منيع بينهما.

“طيب و ربنا هي اللي قالتلي تعالي نتجوز مع أمك لحد ما ربنا يفرجها عليك و ناخد إيجار برة، حتي أنا ذات نفسي استغربت”

“من غير ما تحلف يا ولاه أنا مصدقاك، و ما تقلقش أنا هابقي أمها التانية”

“بجد يا أمي؟”

ينضح الفرح من عينيه فأجابت بتوكيد
“طبعاً طبعاً يا حبيب قلب أمك، و حتي كمان هسيبكم أول أسبوعين وهاروح أقعد عند أختك دلال، أهو مني أونسها بدل ما قاعدة لوحدها لحد ما جوزها يرجع من السفر و منها أخد بالي منها”

و بسعادة عارمة عانق والدته
“حبيبتي ياماه، ربنا ما يحرمنا منك يا غالية”

ربتت علي ظهره بقوة
“و لا منكم أنت و أخواتك يا غالي يا ابن الغالي”

وإذا اختفت النوايا في الصدور، يكفي ما تبوح به العيون من ما يدور.

※ ※ ※

تخرج الطالبات من البوابة المفتوحة علي مصراعيها، وبمجرد أن عبرت منها سمعت هاتفها يصدح بالرنين، فما غيره الذي يتصل بها منذ الصباح وهي لا تجيب عليه، مما جعلته ينتظرها بالقرب من المدرسة.

“واقفة ليه يا بوسي، يلا تعالي هنركب توكتوك”

“معلش يا سمر روحي أنتي أركبي معاهم، أنا هاتمشي عشان هاشتري حاجات لماما”

“تمام، خدي بالك من نفسك، يلا سلام”

اومأت الأخرى إليها وسارت بخطوات سريعة إلي احدى الشوارع الجانبية الشاغرة من المارة
و لم تنتبه إلي زوج من العيون الرمادية تراقبها.

و إذا بقدميها ولجت إلي الشارع الهادئ لتجيب علي الإتصال فشعرت بيد علي كتفها تدفعها برفق نحو مدخل بناء مهجور، شهقت بخوف
“عثمان؟”

كان الكلمة أخرى يندلع من عينيه
“أيوة الزفت اللي عمال يتصل عليكي من إمبارح و أنتي منفضاله، و الصبح و أنتي رايحة المدرسة عمال أشاورلك تقابليني في الحتة بتاعتنا كبرتي دماغك و روحتي مشيتي مع صاحبتك”

“امبارح زي ما أنت عارف اللي حصل مع كلمة أخرى و الحمدلله الموضوع أتحل ورجعنا و مكنش ينفع أرد عليك، و الصبح حصل برضو حوار عند أحلام أختي حتي سيبتهم و مشيت عشان ما أتأخرش، يعني كله كان غصب عني”

كانت نبرتها توحي أنها علي وشك نوبة من البكاء، زفر بضيق من حاله، اقترب منها ووضع يده علي ذراعها
“خلاص حقك عليا ما تزعليش، أنا بس كنت قلقان عليكي”

قد سارت قشعريرة يصاحبها حذر من لمسته علي عضدها، أبعدت يده
“أوعي إيدك أنا زعلانة منك، عشان مش أول مرة تقعد تزعق فيا، ده غير بشوف في عينيك نظرات شك أن بكذب عليك”

“مين قال كدة، أقسم بالله أبداً، ده أنا ممكن أشك في الناس كلها إلا أنتي، أنتي روحي يا بت”

نظرت إلي أسفل بخجل فصاح مهللاً
“الله أكبر علي حلاوة مراتي يا ناس”

اتسعت عينيها بكلمة أخرى
“مراتك؟”

“أيوة بعتبرك مراتي قدام ربنا، ادعيلي بس أموري تتظبط و أجي أطلب إيدك من خالتي عزيزة”

انقباضه في قلبها حدثت للتو، فهو ليس الشخص الذي تتمناه، كم تحلم بأن تتزوج من رجل خارج الحارة البائسة، ذو مهنة تفتخر بها أمام عائلتها ومعارفها، و ليس صبي ميكانيكي يحصل علي أجرة يومية تكفي مصاريفه الخاصة.

“مالك ساكتة ليه؟، أنا افتكرتك هتزغرطي من الفرحة لما قولتلك هاطلب إيدك”

اتقنت إظهار ابتسامة علي شفتيها يتبعها قولها
“بالعكس، أنا فرحانة ومبسوطة جداً، بس كل اللي طلباه منك تصبر شوية لحد ما أدخل الجامعة، مش هاينفع أتجوز و في نفس الوقت أدرس، هيبقي صعب عليا”

ابتسم ليلقي عليها مخططه
“عادي يا حبيبتي نتجوز وتدرسي وأنتي معايا، و بين إيديا و في كلمة أخرىي و… ”
توقف عن الحديث ليفاجئها بالتقاط شفتيها في كلمة أخرى حميمية، دفعته بكل قوتها
“قبل كدة عملتها وحذرتك إنك لو كررتها تاني مش هاتشوف وشي بعدها”

“حقك عليا يا بوسي أنا والله… ”
كاد يقترب منها بندم فصاحت وتبتعد بمسافة
“إياك تقرب مني، المرة اللي فاتت وعدتني، و برضو مفيش فايدة”

تركته وغادرت مدخل البناء المهجور لتجد أمامها آخر ما تتمني أن تراه في تلك اللحظة، نبضات قلبها وكأنها علي وشك أن تتوقف ولسانها يتفوه بصوت يكاد يكون مسموعاً
“مستر حسن؟”

※ ※ ※

ولج من الباب الزجاجي و وجهه ينذر بما هو جاء من أجله، قد قرر أن لا يصبح تحت ضغط تهديدات والده مرة أخرى بل مرات عديدة.

“مستر يوسف”
كان نداء احدى الموظفات تلحق بخطواته السريعة حتي وصل إلي المصعد، توقف أمامها يرفع يده برفض
“أي حاجة عايزة تبلغيني بيها أطلعي قوليها لمستر نور أو رأفت بيه”

ولج إلي داخل المصعد وضغط علي زر الصعود فأنغلق الباب أتوماتيكياً أمام الفتاة التي عادت إلي غرفة المكتب بين زملائها و تخبرهم بما قاله لها يوسف، الابن المُدلل لدي عائلة الشريف.

و لدي رأفت الشريف يجلس خلف مكتبه، يراجع بعض الأوراق وبجواره تنتظر مساعدته ريثما ينتهي من توقيعه علي كل ورقة منها
“أعملي حسابك بكرة هنسافر نقضي يومين في الساحل”

دنت منه وقامت بتقبيل خده
“حبيبي يا فوفو، ربنا يخليك ليا يا بيبي”

حدق إليها بحزم يوبخها
“اللي حصل دلوقت أخر مرة يحصل هنا في الشركة، فاهمة؟”

أومأت إليه و الحزن جلي علي وجهها، أمسك يدها و كاد يخبرها معتذراً من أسلوبه الحاد معها، لكن فُتح الباب فجأةً دون أن يسبقه طرق أو استئذان ليظهر يوسف الذي صوب بصره نحو يد والده التي تمسك بيد مساعدته و علي مقربة شديدة من بعضهما البعض.

حمحم والده تاركاً يد مساعدته
“خدي أنتي الأوراق و روحي راجعيها”

لملمت الأوراق وعينيها لا تبرح عينين يوسف الذي يرمقها بنظرة اربكتها، عادت بالنظر إلي رأفت قائلة
“حاضر يا فندم”
و ذهبت أمام يوسف، فكان يجز علي أسنانه فهو ليس أحمق حتي لا يدرك ماهية ما رآه، هناك ما يفعله والده سراً.

“مش عيب يا أستاذ يا محترم تدخل عليا من غير ما تخبط الباب و تستني لما أسمحلك تدخل و لا لاء؟!”

عقد ساعديه أمام صدره و يتحدث من مركز قوة
“معلش يا رأفت بيه لو كنت قطعت علي حضرتك قعدتك مع سوزي السكرتيرة”

نهض والده يصيح بكلمة أخرى
“أنت إزاي بتتكلم معايا كدة يا ولد؟!، أنت نسيت نفسك و لا إيه؟!، أنا ممكن… ”

رفع يوسف يده ليقف والده عن إكمال تهديده المعتاد
“كفاية بقي كل ما نشد مع بعض تقعد تهددني بأنك هاتسحب مني العربية ورصيدي اللي في البنك، أنا أصلاً سيبتلك العربية في الفيلا و الكريدت كمان، أنا جيتلك النهاردة عشان أقدملك إستقالتي”

أخرج من جيب سترته الداخلي ورقة ووضعها فوق المكتب
“أتفضل”

همّ بالذهاب أوقفه والده
“استني عندك”

سار نحوه وكان الآخر يتحاشى النظر مباشرة إلي والده الذي أخبره
“أنا لو أب قاسي زي ما بتروح تقول لمامتك، كان زماني رزعك قلمين علي وشك دلوقت وندهتلك الأمن يطردوك قدام الموظفين عشان ما يبقاش ليك عين تدخل الشركة تاني”

“أنا… ”

قاطعه والده بحدة
“أنا لسه مخلصتش كلامي، أنا هحاول أتغاضي عن أي حاجة صدرت منك و لا كأني سمعت، و لأخر مرة مفيش بعدها مرة تانية، هديلك يومين تفكر فيهم، يا تعقل وترجع لمكانك في الشركة وتكمل نص دينك يمكن ربنا يهديك، يا إما أقسم بالله لهتشوف مني وش ما شوفتوش قبل كدة، مش هقولك إسطوانة كل مرة، لكن هتتفاجىء باللي عمرك ما هتتخيله، وأنت عارف أبوك كويس لما بيهدد مرة التانية بينفذ”

لم يستطع أن يتحمل توبيخ والده أكثر من ذلك، و حتي يضمن أن لا يتهور بحديث يجعله يخسر والده غادر غرفة المكتب، وقفت سوزي عندما رأته فحدق إليها بازدراء وذهب.

اصطدم بشقيقه في طريقه
“يوسف، اسـ… ”

لم يقف يوسف إليه ومضي سريعاً، تعجب نور لأمر شقيقه، ذهب إلي والده ليعلم منه ما حدث، و قبل أن يفعل ذلك نظر إلي سوزي التي عندما رأته انخرطت في البكاء، اقترب منها قلقاً عليها
“مالك يا سوزي فيه إيه؟، بابا زعلك أو يوسف؟”

قد قررت استغلال إعترافه بحبه إليها، وجدتها فرصة لا تعوض، فوالده غير مضمون و لا يعطي لها كل ما تريده من مال أو غيره من سيارة أو منزل، يكفي أنها زوجته في السر و عرفي أيضاً حتي لا يصبح لها حق في الإرث.

رفعت وجهها وأخذت تمسح بالمحرمة دموعها لتظهر أمام نور بالضعف لتمتلك قلبه أكثر
“مستر يوسف كان لسه عند رأفت بيه و شكلهم كانوا بيتخانقوا و أول ما خرج من المكتب بص لي من فوق لتحت بقرف من غير ما أعمله أي حاجة”

اقترب منها أكثر و أخرج من جيبه محرمة وأخذ يمسح لها دموعها
“معلش بالتأكيد مكنش يقصد، حقك عليا أنا، ممكن عشان خاطري كفاية دموع”

اقترب منها أكثر فأكثر حتي كادت تصبح بين ذراعيه يخبرها مردفاً
“ما أقدرش أستحمل دموعك، قلبي بيوجعني لما شوفتك في الحالة دي”

توقفت عن البكاء وداخلها يتراقص مثل الحية عندما تصل إلي هدفها، نظرت إليه و بصوت أنثوي رقيق للغاية
“مستر نور، أنا موافقة علي طلبك”

تراجع خطوة للوراء والدهشة تعلو ملامحه
“قصدك موافقة تتجوزيني؟”

هزت رأسها بالإيجاب وأخبرته بدهاء
“اه، بس علي شرط نعمل فترة تعارف زي الخطوبة نقرب منها انت تعرفني و أنا أعرفك”

اتسع ثغره بابتسامة عارمة
“شرطك أمر و أنا تحت أمرك يا روح و قلب نور”

“و فيه حاجة تانية كنت عايزة أعرفها”

“قولي يا حبيبتي”

“مراتك هاتعرف و لا أنت هتخبي عليها و جوازنا هيبقي في السر؟!”

برغم ما يشعر به من توتر عندما أتت له بذكر زوجته وعواقب قراره الأهوج، لكنه تحلي بالشجاعة والعزم أمامها
“أيوة هاقولها بس بعد ما نتجوز، و ما تقلقيش مش هتعمل أي حاجة، بالنسبة بقي لبابا… ”

داهم الخوف قلبها فقاطعته
“لاء، قصدي بلاش رأفت بيه يعرف بأي حاجة، أقل حاجة هيعملها معايا هيطردني من الشركة”

ابتسم مرة أخرى مما جعلها تتعجب من رد فعله الغريب، أوضح لها
“ما أنا كدة كدة أول ما هنتجوز هاقعدك من الشركة، و ما تقلقيش ليكي كل شهر مبلغ أضعاف مرتبك اللي بتاخديه هنا، غير العربية، غير الشقة أو الفيلا اللي هتشاوري عليها”

كم هي نادمة أنها عجلت في الموافقة علي الزواج من هذا الرأفت وبيع نفسها له بثمن بخس، و ها هو نجله كالمارد الذي يريد تحقيق كل أحلامها و هي من تملي شروطها أيضاً و ليس هو كما فعل معها والده.

“سرحتي في إيه يا سوزي؟”

انتبهت إليه وعادت من أفكارها الشيطانية قائلة
“بتخيل حياتي معاك هتبقي إزاي”

أمسك يدها يخبرها
“هتبقي جنة”

صدح رنين هاتف المكتب، ابتلعت ريقها وقالت
“ده رأفت بيتصل”

“ردي عليه و أنا كدة كدة راجع علي مكتبي، هاتصل عليكي بالليل نكمل كلامنا”

“تمام”
نظرت إليه مبتسمة، و بعد أن ذهب تلاشت ابتسامتها وجلست علي الكرسي تفكر كيف تلعب علي كلا الجانبين دون خسائر، بينما الضمير لديها في سبات بل في غيبوبة لن يستيقظ منها قط.

※ ※ ※

تجلس بجوار النافذة شاردة فيما يحدث من حولها، خسرت عملها الذي تقتات منه ورقات من المال تساعد مع معاش والدها، تُتهم بالسرقة وهي لن تقبل قرشاً من الحرام و ذلك كان ثمناً لأنها دافعت عن عرضها بكل ما أوتيت من قوة، و هناك أكبر همومها وهو أمر شقيقتها التي أصبحت كالجارية يفعل زوجها ما يشاء بها، كلمة أخرى، كلمة أخرى و هي تتقبل كل ذلك بصدر رحب، يكفي إنها تعيش علي ماله الآتي من بيع المخدرات، حرام يدخل البيت فيقلب حياتهما للجحيم فما العجب في ذلك؟!، و آخر الهموم كلما ذهبت إلي كل متجر للعمل يعتذر إليها صاحب المتجر بأنه ليس لديه وظيفة شاغرة لديها فتعود خالية الوفاض.

“بت يا كلمة أخرى”
كان صوت سماح الذي وقفت أسفل النافذة فأنتبهت إليها الأخرى بنفاذ صبر
“نعم يا سماح عايزة إيه؟”

“مالك ياختي متزرزره عليا كدة ليه؟!، الحق عليا جايبلك شغل وفلوسه حلوة أوي، أحسن من مرمطك في المتروهات بشوية عبايات مضروبة”

زفرت الأخرى بضيق أوشك علي الكلمة أخرى
“انجزي يا سماح وقولي”

اقتربت من حافة النافذة تخبرها بصوت خافت تسمعه كلمة أخرى فقط
“بصي هبعتلك رقم واحدة علي الواتس هتتواصلي معاها، هي من أمريكا بس بتتكلم لبناني علي فلسطيني أو أردني، ما تفهميش جنسيتها إيه بالظبط، المهم هاتطلب منك بياناتك وصورة ليكي و هتبلغك بالمطلوب منك”

“و يا تري هي مين الست دي و إيه اللي هاتطلبه مني؟!”

تراقب الأجواء من حولها حتي لا يسمعها أحد سوي كلمة أخرى
“بصي اسمعيني للأخر من غير ما تقطعيني، هي كل اللي هتطلبه منك مقاطع فيديو ليكي مخبية وشك و لا بسه هدومك عادي مرة وأنتي بترتبي أوضتك، مرة و أنتي بتطبخي، أي حاجة أنتي بتكنسي مثلاً أو بتمسحي، بس تكوني باينة كلك علي بعضك، و هتاخدي علي المقطع الواحد 200 دولار، و أنتي و شطارتك لو عملتي مقطعين و لا أربعة و لا خمسة في الأسبوع الواحد، أحسبي بقي كمان لما يتحولوا بالمصري”

عقبت الأخرى بسخرية
“و يا سلام بقي لو الهدوم خفيفة و اللي تحتها باين و لا تكون مبلولة و لازقة عشان تجيب فلوس أكتر صح؟”

ابتسمت سماح كالحمقاء
“برافو عليكي، طول عمرك ناصحة”

هنا لن تعد كلمة أخرى في تحمل أمر أخر، صاحت بصوت وصل إلي جميع سكان الحارة
“بقولك إيه يا سماح، أنا سيباكي يا حبيبتي تتكلمي و تقولي كل اللي عندك عشان أقطع الشك اللي جوايا و أكذب اللي بسمعه عنك علي كل لسان رجالة وشباب حتي الصبيان الصغيرة في الحارة، أتاريهم عندهم حق و ما خفايا كان أعظم، عايزاني أعمل زيك ألبس المحزث و الملزق والشفاف و أتصور فيديوهات عشان إيه، شوية دولارات أخسر بيهم دنيا وأخرة و سمعتي؟!”

كانت تتوقع أن الأخرى تبتعد أو تخشي الرد لكن حدث نقيض ذلك
“مالك يا بت شايفة نفسك عليا كدة ليه، فاكرة نفسك مين يا ختي، و الكلاب اللي بيجيبوا في سيرتي أخواتهم وأمهاتهم فيديوهاتهم مالية التيك توك يعني لا تعايرني و لا أعايرك، و اللي بيته من إزاز ما يحدفش الناس بالطوب يا عينيا”

تجمع المارة وبعض الجيران فتدخل سعيد شقيق كلمة أخرى
“أخواتنا وأمهاتنا أشرف منك يا سماح، و لا الوسخ فاكر كل الناس وسخة زيه”

صاحت كلمة أخرى في شقيقها
“واد يا سعيد ما تدخلش في الكلام و أدخل جوة”
ثم ألتفت إلي سماح و تمسك بخشب النافذة قائلة
“و أنتي يا أخت سماح روحي أتكلي علي الله ربنا يهديكي أو يهدك، المهم تريحنا منك، عن إذنك”
اوصدت النافذة في وجهها و تركتها تتشدق كالتي فقدت عقلها حتي توقفت عن الصياح عندما رأت عاطف يحدق نحوها بازدراء.

※ ※ ※

في صباح اليوم التالي…
“واد يا سعيد، بت يا ابتسام قوموا يلا جهزوا نفسكم عقبال ما أعملكم الفطار والسندوتشات”
تناديهم والدتهم، و كانت كلمة أخرى مازالت مستيقظة منذ الأمس، لم تأكل و لم تملك الرغبة في التحدث مع أحد، أثرت الصمت حتي لا تزيد من الآلام داخلها، و كيف لا تزيد و تجد كل أبواب العمل مغلقة مهما سعت إليها.

اكتفت ابتسام بالرد علي والدتها
“ما تعمليش حسابي يا ماما، أنا مش رايحة المدرسة النهاردة”

و صدح صوت سعيد أيضاً
“و أنا مش رايح عشان المستر حلف علينا إمبارح اللي مش هيدفعله فلوس المجموعة مش هيدخله المدرسة”

ولجت والدتهم إلي الغرفة تسأل ابنتها
“و أنتي يا ست ابتسام يا أم ثانوية عامة، مش هاتروحي ليه؟”

لو تعلم السبب الحقيقي لعدم ذهابها إلي المدرسة و هو تخشى و تخجل في آن واحد من رؤية معلمها الذي رآها تخرج من منزل مهجور و خلفها عثمان يناديها، تلاقت عينيها برماديتين حسن الذي حدقها بكلمة أخرى شديد، لم تملك الشجاعة لتكذب علي سبيل الدفاع عن نفسها، و اختارت الفرار من أمامه غير مكترثه لنداء عثمان.

“تعبانه شوية و مش قادرة، و بعدين معظم اصحابي مش بيروحوا، أنا اللي بيخليني أروح عشان ما باخدش درس غير الإنجليزي و الرياضة و باقي المواد معتمدة علي شرح المدرسين اللي ما بيشرحوش أصلاً”

نهضت كلمة أخرى و أخيراً تخلت عن صمتها
“واد يا سعيد قوم ألبس و روح و أنا إن شاء الله قبل جرس المرواح هتلاقيني عندك، هدفعلك الفلوس”

و أخبرت شقيقتها
“و أنتي شوفي عايزة تاخدي درس في مواد إيه و مع مين و قوليلي المبلغ المطلوب و هيبقي عندك علي بكرة”

“و هاتجيبيلهم منين يا بنتي، ده المعاش فاضل منه 500 جنيه و إحنا يا دوب في نص الشهر”
كان حديث عزيزة وتشعر بالحزن نحو ابنائها، فهي تعجز عن تقديم لهم كل ما يحتاجونه، فهي صاحبة مرض مزمن يجعلها غير قادرة علي العمل.

كانت كلمة أخرى قد فتحت الخزانة و أخذت المال المتبقي معها و مدت به يدها إلي والدتها
“اتفضلي يا أمي خلي دول معاكي وبإذن الله هتفرج من عند ربنا”

و نظرت نحو حقيبة الملابس المليئة بملابس قد اشترتها و قامت بتخزينها إلي أن تصبح عروسا!

※ ※ ※

و في مكان آخر في حي المعادي كان قد استيقظ للتو من أجل الذهاب إلي عمل مقابلة في إحدى الشركات، بعد أن رأي الإعلان عن طلب مديرين تسويق علي صفحة خاصة بالوظائف علي موقع التواصل الإجتماعي الشهير.

“أنت رايح فين علي الصبح يا يوسف؟”

ألتفت الأخر إلي صاحبه و أخبره
“رايح interview في شركة طالبة التخصص بتاعي”

اقترب منه صاحبه متعجباً
“أنا هاتجنن منك، يبقي باباك رأفت بيه الشريف صاحب أشهر براند في مصر و مصانع وسلسلة محلات في كل محافظة و رايح تقدم علي شغل في شركة تانية يا عالم دول صادقين و لا نصابين؟!”

انتاب الأخر حالة من الضيق فنظر إلي صاحبه بامتعاض
“لأن ما بحبش التحكمات والتهديد كل شوية، و أنا هوري بابا و نور إن من غيرهم قادر أعيش و اعتمد علي نفسي”

“غلط يا يوسف، أنت صاحبي و بعزك جداً، و والصاحب لما بيشوف صاحبه في شدة يقف جمبه و يقدم له النصيحة اللي توصله لبر الأمان، و الأمان أنك تكون مع عيلتك، تكون في ضهر باباك و أخوك، هم عايزين مصلحتك و أنت فاهمهم غلط، أدي لنفسك فرصة تانية وقرب منهم مش يمكن حالك يبقي أحسن؟!”

ابتسامة ساخرة غزت شفتيه
“الأحسن إن أعمل نفسي بنفسي، مش أعتمد علي حد حتي لو كانوا أهلي”

※ ※ ※

“أي عباية وأي فستان بـ 200 جنيه وبس، يلا عرض خاص و مش هايتكرر، كل قطعة بالتيكت بتاعها، و اللي هتاخد 3 قطع هعملها خصم 100 جنيه”
ظلت تكرر حديثها داخل القطار و تقوم بعرض الثياب أمام أنظار السيدات و الصبايا، تم بيع القليل من القطع و بدأ توافد النساء عليها للشراء، توقف القطار في المحطة و ولجت بائعة علي معرفة بها، اقتربت منها لتخبرها بهمس
“انزلي المحطة الجاية عشان اللي بعدها فيها تفتيش، و الظابط المسئول هناك أجارك الله من رخامته وشره”

“تسلميلي يا حنان”
لملمت سريعاً الثياب من أيادي السيدات
“معلش يا جماعة أنا هنزل المحطة الجاية”

و في مكان آخر ليس ببعيد يقف في حيرة من أمره بعد أن كاد يطلب رحلة من تطبيق التوصيل للذهاب إلي الشركة، وجد المبلغ المطلوب أكبر من ما يملكه حالياً.
ألقي نظرة علي عنوان الشركة فوجده يقع بالقرب من محطة قطار تبعد عن الحي بثلاث محطات، أخذ يلتفت حوله فوجد إنه علي مقربة من محطة المعادي، شعر بالجوع فهو لم يأكل منذ أمس، وجد مطعم خاص بعمل الشطائر و الأكلات الشعبية كالفول و الفلافل،
ذهب وقام بشراء اربع شطائر جبن مقلي و سار نحو المحطة من الخارج باحثاً عن مكان ليجلس فيه و يتناول فطوره، وجد متجر لبيع العصائر الطازجة يوجد به مقاعد للإستراحة، جلس بعد أن طلب من البائع
“عصير قصب لو سمحت”

سأله الرجل
“صغير و لا كبير يا كابتن؟”

نظر إلي ما تبقي معه من مال وقال
“صغير وعايز إزازة مياه”

أشار الرجل إليه نحو براد عرض المشروبات الباردة وزجاجات المياه المعدنية
“أتفضل عندك أزايز المياه في التلاجة”

رفع جانب فمه بسخرية، يتحدث بتهكم علي ما يحدث معه
“فينك يا منيرة هانم، تيجي تشوفي ابنك مش معاه يركب أوبر و هيشرب عصير قصب”

أخذ زجاجة المياه من البراد و جلس علي المقعد ليتناول الشطائر أولاً.

و أمام المتجر علي الجهة المقابلة تقف وتحمل الحقيبة البلاستيكية المليئة بالثياب، تشعر بالعطش الشديد و بعض الدوار، فهي لم تأكل أيضاً منذ أمس و ربما من قبل.

عبرت الطريق وذهبت لتستريح قليلاً علي مقعد شاغر، ترفع يدها إلي البائع
“لو سمحت يا عم جمعة واحد قصب صغير و كوباية ميه”

ابتسم إليها البائع قائلاً
“يا صباح النور، عاش من شافك يا كلمة أخرى، بقالك فترة ما بتجيش”

“ما بنزلش المعادي كتير، ما أنت عارف الناس هنا ما لهمش في البضاعة اللي بتلف المترو، دول زباين سيتي ستارز، كايرو فيستڤال، شغل ماركات عالية مش شغل التقليد و لا المحلي اللي معانا”

كان الذي يتناول فطوره منتبهاً إلي الحديث خاصة مع صاحبة الصوت المألوف لديه، يريد رؤية وجهها لكنها تجلس موليه ظهرها إليه

بينما عقب عم جمعة
“و الله يا كلمة أخرى ما كلهم، ما تخدعكيش المظاهر، ممكن واحد لابس بدلة شيك و أحدث موديل لزوم الوجاهة لكن لو دورتي في جيبه معهوش غير حق المواصلات”

توقف الأخر عن الأكل و حدق إلي البائع بحنق، يقول في نفسه
“يا عم ده أنت لو قاصد تلقح مش هتقول كدة”

ردت كلمة أخرى علي حديث البائع قائلة
“علي رأيك يا عم جمعة، ربنا عالم بحال كل واحد فينا، ربنا يرزقنا جميعاً”

“آمين يارب”
أخذت الكوب و شربت العصير و يليها كوب الماء

“عايز حاجة مني يا عم جمعة؟”
أخرجت ورقة بفئة الخمس جنيهات و تعطيها إليه، رفع الأخر يده برفض
“و الله ما هاخد و لا مليم، و مش عايز حاجة منك غير تيجي تسلمي عليا، و لا محتاجة أي حاجة أنا زي والدك الله يرحمه”

ابتسمت الأخرى واخبرته بإمتنان
“تسلم الله يباركلك”

رفعت الحقيبة الكبيرة واستدارات لتغادر فتعثرت في مقعد مقلوب، وقعت الحقيبة وتناثرت أغلفة قطع الثياب و هي كانت علي وشك أن تقع، نهض يوسف وأمسك ساعدها
“حاسبي”

نظرت إليه و اتسعت عينيها، تمتلك ذاكرة حديدية، سرعان قامت بالتعرف عليه
“أنت اللي كان مقبوض عليك أداب في قسم دار السلام أول إمبارح؟”

جز علي أسنانه بحنق ثم وجه إليها كلمة أخرى مماثلة
“ما أنا برضو فاكرك، مش أنتي اللي كان مقبوض عليكي في تهمة سرقة برضو؟”

ابتسامة صفراء زينت ثغرها يليها رد هازء
“دي كانت تهمة متلفقة و الحمدلله أفرجوا عني بعد ما ظهرت برائتي، الدور و الباقي علي الممسوك أداب”

كان سيخبرها بدفاع عن حاله إنه لا علاقة له بتلك التهمة و لا يعلم لما يبرر لها، لكن ما لفت انتباهه بقوة أغلفة الثياب المدون عليها العلامة التجارية الخاصة بشركات والده، أخذ القطعة و دقق النظر في البيانات المدونة علي الغلاف، أخرج الثوب منه و قام بلمسه و فحصه ليكتشف أن تلك القطعة تقليداً لما ينتجونه.

“هات الفستان خليني أمشي، و لو هاتشتريه بـ 200 جنيه”

ابتسم إليها وعقب ساخراً
“يعني مقلدين براند أقل فستان فيه ما يقلش عن 2000 جنية و كمان بتبيعوه بـ 200، لاء واضح إنك بريئة من السرقة بس نصابة كبيرة”

ارتجفت من داخلها لكنها صاحت في وجهه
“أنت بتبرطم بإيه يا جدع أنت، أنا و لا حرامية و لا نصابة، أنا شارية الهدوم دي من محل عندنا، روح أسألها بنفسك لو مش مصدقني”

اختطف الحقيبة من يدها و بيده الأخرى يجري مكالمة هاتفية
“أيوة يا نور، هابعتلك الـ location تعالي و هات معاك المسئول القانوني والرجالة و تعالوا بسرعة”

“هببت إيه تاني يا يوسف؟”

ابتسم بظفر و يرى كلمة أخرى تقف أمامه تحاول استيعاب ما يتفوه به، أجاب علي شقيقه
“لاقيت مين اللي بيكلمة أخرى بضاعتنا في السوق”

يتبع…
*الفصل السابع*
كلمة أخرى في المترو
بقلم ولاء رفعت علي

ترجل من سيارة أجرة ويجذب يدها عنوة فصرخت به و تسحب يدها من قبضته

“أوعي إيدك، أنا قولتلك مليش دعوة بمين بيقلد حاجتكم، أدخل لمدام رشا و أسالها”

أشارت إليه نحو متجر رشا، حدق يوسف إليها بوعيد

“كله هيبان دلوقت، اتفضلي قدامي”

ذهبت وهو يتبعها حتي ولج كليهما إلي الداخل، ترددت كلمة أخرى قليلاً قبل أن تنادي صاحبة المتجر التي تقوم بضبط وضع البضاعة علي الرفوف

“مدام رشا”

استدارت الأخري إليها و ما أن رأتها صاحت بعدائية

“كلمة أخرى!، أنتي إيه اللي جابك هنا؟، مش حبستي أخويا جاية عايزة تلبسيني مصيبة أنا كمان؟!”

تصدر يوسف هنا ليجنب كلمة أخرى الحديث مع تلك المرأة

“أنا اللي جاي لحضرتك”

نظرت الأخرى إليه و سألته بنبرة هازئة

“و أنت مين أنت كمان؟”

“أنا يوسف الشريف، المدير التسويقي لشركة وبراند Y&N”

لم تكن تتمتع بفطنة أو سرعة بديهة

“نعم برضو حضرتك عايز إيه؟”

“عايز أعرف فين المصنع اللي بيتوردلك منه البضاعة المضروبة وتقليد للبراند بتاع مصانعنا”

صاحت بنفاذ صبر بعد أن شعرت بالاتهام

“و أنا مالي ببضاعتكم اللي بتتقلد، أنا واحدة صاحبة محل و بشتري البضاعة من تجار الجملة أو الموردين ليهم”

زفر يوسف بنفاذ صبر من تلك الحمقاء

“ما أنا عارف يا… ”

تابعت هي

“مدام رشا”

“بصي يا مدام رشا، الموضوع و ما فيه إحنا بقالنا فترة بنتحارب من كذا إتجاه من ضمن الحرب واحد صاحب مصنع من بتوع بير السلم، بيقلد تصاميم البراند بتاعنا و من بجاحته منزلها بتيكت إسم المجموعة عشان الناس تصدق إن الهدوم فعلاً من عندنا، الناس البسيطة هتصدق خدعة النصاب، لكن الناس اللي متعودة تشتري من فروعنا عارفين الفرق ما بين الأصلي و التقليد”

تنهدت الأخرى وهي تنظر نحو كلمة أخرى تارة ثم تعود بالنظر إلي يوسف لتخبره

“أنا هكتبلك عنوان المصنع واتصرف أنت معاه”

قامت بتدوين العنوان إليه ثم نزعت الورقة تعطيها إليه

“أتفضل”

أخذها وأمعن النظر في العنوان المدون

“شكراً، و آسف علي الإزعاج”

غادر المتجر وأجري اتصالا هاتفياً

“ألو يا نور؟… بقولك أبقي هات الرجالة عشان لو حصل أي أمر طارئ… أنا هابعتلك العنوان في رسالة… يلا سلام”

أنهي المكالمة و ألتفت إلي كلمة أخرى فقالت له

“صدقتني بقي؟”

شعر بالحرج من معاملته القاسية معها و اتهامه إليها دون دليل، وجد عليه الاعتذار، ظهرت علي وجهه ابتسامة

“أنا آسف علي سوء التفاهم اللي حصل مني، لكن… ”

صاحت الأخرى بكلمة أخرى

“سوء تفاهم إيه بالظبط؟!، ما أنا قولتلك أنا مليش دعوة من الأول، لأن إحنا كبايعين سواء محلات أو مندوبين يا دوب آخرنا بنستلم البضاعة و بنبيعها ملناش دعوة بقي مضروبة و لا أصلية”

اقترب منها للغاية وبنظرة يعلم مدي تأثيرها علي جنس حواء قال لها

“و أنا أعتذرتلك، عايزاني أعملك إيه تاني يعني؟”

رفعت احدى حاجبيها بتعجب وظلت تنظر إليه ثم أجابت

“و لا حاجة، أظن كدة خلاص مهمتي انتهت عن إذنك”

“كلمة أخرى؟”

أوقفها نداءه قبل أن تذهب، لكن أصابتها الدهشة عندما ذكر اسمها التي لم تخبره به بعد، ألتفت إليه و لاحظ دهشتها، علل مخبراً إياها

“مش اسمك كلمة أخرى برضو زي ما الست اللي جوة نادت عليكي؟”

زفرت بضيق فأجابت

“نعم؟”

أخرج شىء من محفظته الجلدية ومد يده بها إليها

“ده الكارت بتاعي عليه كل أرقامي، لو احتاجتي أي حاجة كلميني”

لم تأخذ البطاقة وأخبرته برفض

“و أنا مش بشحت، أنا بشتغل بياعة علي باب الله وبكسب الفلوس بتعب وشقى”

ابتسم وعقب علي ردها الذي زاده إعجاباً من موقفها الذي ينم عن فتاة ذات عزة وكرامة

“و أنا مش بديكي أرقامي عشان تشحتي مني، أنا أخدت بالي إنك سيبتي الشغل مع اللي اسمها رشا و واضح من رد فعلها أو ما دخلنا عليها إن ما بينكم مشكلة”

“لماح، أيوة سيبت الشغل معاها، لأن ما بحبش الظلم و الإفتراء”

تحفظت بالسبب الرئيسي داخلها وهو ما اقترفه رجب بها من محاولة فاشلة انتهت بزجه داخل السجن.

“و إحنا عمرنا ما ظلمنا حد، و اللي بيشتغل عندنا بنعمله كأنه واحد مننا”

بارقة أمل لمعت أمام عينيها، نظرت في البطاقة ثم أخبرته بشبه ابتسامة

“متشكره يا يوسف بيه”

ذهبت من أمامه فصاح

“هستني تكلميني”

توقفت المركبة ذات الثلاث إطارات أمامها، و قبل أن تصعد داخلها هزت رأسها إليه مبتسمة

※ ※ ※

يصدح رنين الجوال أعلي الكمود، تقلبت بجوار زوجها ثم فتحت عينيها والنوم مازال مسيطراً عليها، لكن عندما رأت هوية المتصل انتفضت ونهضت علي الفور، ضغطت علي الزر الجانبي لكتم صوت الرنين، ألقت نظرة علي رأفت الذي يغط في سبات عميق، تنفست الصعداء و نهضت دون إصدار صوت أو حركة، ذهبت إلي غرفة أخرى وأجابت بصوت خافت

“ألو يا نور بيه”

جاء صوته إليها بلهفة عبر السماعة

“وحشاني أوي، و بعدين إيه نور بيه دي، عمرك شوفتي تقول لجوزها يا بيه؟”

“جوزها!، أنا لسه موافقتش علي فكرة”

“اعتبر ده رفض؟”

“لاء، بس أنا لسه بفكر”

“أنا ممكن أديكي مهلة لمدة يومين، و علي أخر اليوم التاني هستناكي في العنوان اللي هابعتهولك في رسالة، دي هتبقي هديتك الأولي لو وافقتي”

“تمام”

“أنا عارف بتصل في وقت متأخر، بس بصراحة مقدرتش استني لحد بكرة، أصل صوتك واحشني زي ما كل حاجة فيكي وحشاني”

ابتسمت وتلاشت بسمتها حينما سمعت صوت سعال زوجها، أخبرت نجله مسرعة بصوت خافت

“معلش مضطرة هقفل معاك دلوقت، ماما بتنادي عليا، يلا باي”

أنهت المكالمة علي الفور و ذهبت لتطمئن أن رأفت مازال نائماً فوجدته كما تركته منذ قليل، تنفست الصعداء فعادت جواره تتمدد، تنظر نحو زوجها وعلي وجهها ابتسامة شيطانية نتجت عن ما عزمت عليه دون رادع، فالطمع قد أعمي البصيرة لديها وجعلها تنسج شباك من خيوط واهية ستكون فخاً لها لا محالة.

و لدي نور الذي يرسل العنوان إليها عبر برنامج الدردشة الشهير، يشعر بالسعادة فقد اقترب علي تحقيق ما يريده هو، اختياره الحر دون تدخل من والده الذي يفرض عليه كل شيء ويجب عليه السمع والطاعة.

“يا تري مين اللي كنت بتكلمها وخلتك مبسوط أوي كدة”

ألتفت والفزع علي ملامحه، رأي زوجته تقف عاقدة ساعديها أمام صدرها، تنتظر إجابة كاذبة بالطبع

“أنتي هنا من أمتي؟، و بعدين مين اللي سمحلك تتصنتي عليا؟!”

جلست علي مقعد طاولة الزينة، تمسك بالفرشاة تمشط خصلات شعرها المسترسل، تحدق إليه عبر المرآة بنظرة مبهمة يشوبها ابتسامة ساخرة

“ما تقلقش، أنا عارفة من وقت كبير إن فيه واحدة تانية في حياتك، و واضح إنك أنت اللي بتجري وراها”

تركت الفرشاة وأخذت علبة الكريم تأخذ منه القليل وتضعه علي يديها و عنقها، تتابع حديثها

“طبعاً مستغرب إزاي معملتش زي أي واحدة تكتشف خيانة جوزها، تتخانق و تزعق أو تكلمة أخرى، لكن دول الستات الخايبة اللي ما بتعرفش تاخد حقها بذكاء”

نهض و وقف خلفها ينظر إلي صورتها في المرآة، يسألها بوجه متجهم الملامح

“قصدك إيه؟”

قامت واستدارت لتصبح أمامه وجهاً إلي وجه، علقت ذراعيها حول عنقه، تبتسم بدهاء وتجيب بتحذير يقرب إلي التهديد

“خد بالك يا بيبي، لأن مش هنبهك تاني”

ابتعدت عنه واتجهت نحو غرفة الثياب المتفرعة، تناولت علبة مخملية من إحدى الرفوف ثم عادت إليه وتفتح العلبة، تأخذ منها سواراً مرصعاً بقطع الألماس الباهظة، ترتديها حول معصم يدها وسط صدمته وفكه الذي تدلي، هذا السوار اشتراه من متجر المجوهرات منذ يومين ليهديه إلي سوزي!

رفعت ساعدها أمام عينيه تستعرض السوار بمكر وكيد كاد يكلمة أخرىه من الحنق

“اه صح يا نور، نسيت أقولك mercie يا حبيبي علي هدية عيد جوازنا اللي هنحتفل بيه بعد شهرين، بصراحة زوقك يجنن”

كان يشد كلا من قبضتيه بقوة، ويجز علي أسنانه وعروق عنقه نافرة من دماءه التي تفور من الغيظ، اقتربت منه قبل أن تستلقي فوق الفراش، تهمس إليه

“تصبح علي خير يا نور”

قامت بتقبيل خده وبداخلها تنتشي من لحظة الانتصار وهي تراه مكتوف الأيدي وفي خوف من علم والديه عن أمره الذي يخفيه.

※ ※ ※

ذهب يوسف إلي النادي الخاص بالطبقة الأرستقراطية نظراً للمبلغ الباهظ الذي يدفعه أعضاءه كاشتراك سنوياً.

قد قامت والدته بالاتصال عليه وأخبرته تريد رؤيته لأمر لا يتحمل التأجيل، فذهب ليري ماذا تريد..

تجلس برفقة كاميليا وصديقتها السيدة راندا وابنتها المدللة ماهي التي سألت منيرة

“هو يوسف ليه أتأخر يا طنط؟”

“ما تقلقيش يا حبيبتي، زمانه جاي لسه قافل معايا و قال إنه وصل علي البوابة”

نظرت في شاشة الهاتف للتأكد من ضبط هندامها قبل مجئ يوسف

“أهو يوسف جه”

قالتها كاميليا، رفعت يدها إليه

“تعالي يا يوسف، إحنا مستنينك”

اقترب منهم وانتابه الضيق من والدته التي دبرت موعداً مع ماهي، هذه المدللة التي لا تكف عن اللحاق به.

وجد والدته تنظر له أن يتبادل التحية والمصافحة مع صديقتها وابنتها

“تعالي يا يوسف سلم علي طنط راندا و ماهي”

أكتفي بفعل ذلك دون تصافح بالأيدي

“أهلاً يا طنط يا راندا”

ابتسمت إليه الأخرى

“أهلاً يا حبيبي”

“هاي چو”

قالتها ماهي ونهضت فاقتربت منه تمسك بيده دون خجل أمام والدتها والأخريات

“تعالي لما أحكيلك عن رحلة الساحل اللي فاتتك، عن إذنك يا مامي”

سار يوسف معها علي مضض حتي وصل كليهما إلي المسبح

“إيه يا چو مابقتش ترد عليا فون أو تسأل عني، أنت زعلان مني؟”

أطلق زفرة ثم أجاب

“مشغول شوية”

“مشغول إزاي و انت بتروح النايت مع رامي، و لا فاكرني معرفش حاجة عنك”

رفع احدى حاجبيه يسألها ساخراً

“ده أنتي بترقبيني بقي؟!”

“لاء، بس أخبارك بتيجي لحد عندي من غير ما أدور وراك”

“ماشي يا ماهي، ياريت تشيليني من دماغك و من الأخبار اللي بتيجي لحد عندك، لأن أنا زي ما قولتلك قبل كدة، أنا بعتبرك زي أختي”

شهقت وكانت علي وشك البكاء

“و أنا رديت عليك وقولتلك أنت بالنسبة لي إيه، أنا بحبك أوي يا يوسف، و أنا اكتر واحدة مناسبة ليك، بنحب الخروج و السهر، دماغنا زي بعض”

زفر بضيق وقال

“بس أنا مش تافه و دماغي فاضية”

شهقت مرة أخرى بكلمة أخرى

“أنا تافهة يا يوسف؟!”

“يوه، بقولك إيه هاتعيطي هاسيبك وأمشي”

حدقت إليه بوعيد وأخبرته

“و علي إيه، أنا اللي هاسيبك وأمشي”

و إذ فجأة قامت بدفعه في المسبح ليقع في الماء بثيابه وسط ضحكات من رأى ما حدث.

※ ※ ※

سمعت صوت مفتاحه وهو يضعه في فتحة القفل، ركضت سريعاً إلي داخل غرفة ابنها وتظاهرت بالنوم تجنباً لرؤيته أو التحدث معه.

“بت يا أحلام؟، واد يا ميدو؟”

ندائه بصوته المنكر هذا جعلها تضع كفها علي أذنها، ولج إلي غرفتهما لم يجدها فذهب إلي غرفة ابنه فوجدها تغفو في سبات عميق، ابتسم و عاد إلي الغرفة الأولي ليتحدث في هاتفه دون أن تسمعه زوجته، بينما هي عندما سمعت صوت إغلاق باب الغرفة تيقنت أنه يخبئ شيئاً أو يحيك مصيبة كعادته.

نهضت ووضعت أذنها علي الباب تسمعه يضحك و يتحدث عبر الهاتف

“و أنتي كمان وحشتيني يا بت”

….

“ما أنا بكلمك عشان أقولك هعدي عليكي بكرة و هجيبلك المزاج اللي بتحبيه و معاهم إزازة فودكا تحلو بيها قعدتنا”

…..

“عايزه طبعاً أحمر دم غزال، و يا سلام لو قصير و ضهره مكشوف، هيبقي عليكي إيه.. ”

اندفع الباب ورأي أخر وجهه لا يريد رؤيته

“اه يا سافل يا خاين، مش كفاية مستحملاك و مستحملة قرفك، كمان بتتفق مع الـ…. اللي بتخوني معاها عشان تروحلها”

“سلام أنتي يا وزة هكلمك بعدين”

أنهي المكالمة وألقي هاتفه علي المقعد، و بدون خجل بل و جرأة سافرة يخبر زوجته

“آه بخونك، و هخونك، عندك مانع؟”

“و كمان ليك عين و بتقولها في وشي؟!، يالهوي”

أخذت تصرخ، اقترب منها ووضع كفه علي فمها

“اخرصي لأخنقك، مش أنتي اللي عملالي زعلانة و مانعاني أقربلك؟!”

أزاحت يده بصعوبة لتخبره

“أيوة ومش هاتقرب مني تاني غير لما تعترف بغلطك و تبطل القرف اللي أنت عايش فيه، لأن خلاص فاض بيا منك و معدتش هاستحمل تاني ذلك وإهانتك ليا”

أخذ يضحك و يقهقه ساخراً منها

“الله يرحم الحب اللي كان مولع في الدرة، تحبي أفكرك؟ ”

“كان يوم أسود يوم ما أتجوزتك يا شيخ”

اقترب منها ليعيد عليها آثام من الماضي

“هو أنا كلمة أخرىتك علي إيدك وقولتلك وافقي، و لا أنتي اللي جيتي أتحايلتي عليا و كنتي هتبوسي رجلي عشان أكمل معاكي؟”

غمز بعينه فاتسعت خاصتها بكلمة أخرى تتذكر ما حدث منذ ثلاث سنوات

“إيه اللي حصل بيني و بينك كان بسببك و كان مكتوب كتابنا، أنت بقي اللي كان نيتك تخلع مني بعد ما فضلت زي الشيطان تحوم حواليا لحد ما سلمتك نفسي، كنت فاكراك بتحبني زي ما بحبك، كنت بكدب أهلي و كل اللي كان بيقولي أبعد عنك لأنك واحد مالهوش أمان و لا بيخاف ربنا، بس أنا اللي أستاهل عشان بيعتهم و أشتريتك، و للأسف أشتريت الرخيص بالغالي”

جذب شعرها في قبضته وصاح بكلمة أخرى جم

“أنا برضو الرخيص يا و….، شوفي شكلك بقي عامل إزاي”

دفعها أمام مرآة الزينة وتابع

“بقيتي شبه الست اللي عندها سبعين سنة، أنا بقرب منك عشان مزاجي و خلاص، لكن انا مش شايفك أصلاً”

ردت بقلب جريح

“شكلي اللي مش عاجبك بسببك أنت، لو أنت راجل و لو لمرة واحدة مكنش بقي ده حالي”

جذب شعرها بقوة فصرخت

“راجل غصب عنك يا بنت الـ… ”

استدارت بصعوبة صارخة به وتهوي بكفها علي خده

“أنت اللي…. و ابن ستين….، أبويا الله يرحمه أنضف منك و من اللي زيك”

كان الشر يتطاير من عينيه

“بتشتميني و بتمدي إيدك عليا؟!، ده أنتي ليلة أهلك سودة و مش هاسيبك غير لما ما أموتك”

ركضت من أمامه وهو يلحق بها، صفقت باب غرفة ابنها في وجهه، فقام بدفعه بجسده حتي استطاع كسره

“و حياة أمك ما هاسيبك يا أحلام”

تمكن من الإمساك بها في ظل صرخات استغاثة أطلقتها لعل أحد يأتي و ينقذها من يد هذا المجرم!

يتبع…
ــــــــــــــــــــــــــ

*الفصل الثامن*
كلمة أخرى في المترو
بقلم ولاء رفعت علي

تتمدد أحلام علي سرير المشفى في عنبر ملئ بالمرضي المصابين من قسم الطوارئ داخل مشفى حكومي، تفتح عينيها فوجدت عائلتها تحيط بها من كلا الجانبين.

“حمدالله علي السلامة يا ضنايا، حاسة بإيه دلوقتي؟”
كان سؤال والدتها والخوف ينضح من عينيها، تري ابنتها طريحة الفراش من أثر اعتداء زوجها العنيف عليها، نتج عنه كدمات في الوجه و شرخ في الساعد الأيمن، حول رقبتها طوق طبي لتقويم فقرات عنقها.

“أنا فين؟”
أخذت تنظر إليهم بتيه، تجد نظرات الشفقة من شقيقتيها كلمة أخرى وابتسام والحزن علي ملامح وجه والدتها

اقتربت منها ابتسام التي تحمل ابن شقيقتها، تمسك بيدها تخبرها
“أنتي في المستشفي، جبناكي علي هنا بعد ما جيرانك كلمونا وقالولنا إنهم سمعوا جوزك بيتخانق معاكي و بيكلمة أخرىك وفجأة لقوه خارج من البيت وشايلك بيجري بيكي”

تذكرت ما حدث لها و كم الكلمة أخرى التي تلقتها من معايرة ونعت بالألفاظ النابية من زوجها، انتهي كل ذلك بمشاجرة ليست في صالحها ولم تتحمل توابعها من كلمة أخرى مبرح وفقدان الوعي.

“هو فين؟”

أجابت والدتها وكانت تكبت كلمة أخرىها من ضعف شخصية ابنتها الذي جعل زوجها يفعل بها كما يحلو له
“هايكون راح فين، اللهي داهية تاخده مطرح ما يكون، بتسألي عليه بعد اللي عمله فيكي؟!، ده مخلاش فيكي حتة سليمة”

عقبت كلمة أخرى بسخرية
“وفري كلامك يا ماما، عشان مفيش عقل بيفهم و لا كرامة هتنقح عليها”

اكتفت أحلام بالنظر إلي شقيقتها بعتاب و تكبت دموعها، جاء الطبيب المسئول عن علاجها
“عاملة إيه يا مدام أحلام؟”

هزت رأسها وبضعف أجابت
“الحمدلله”

“هو إيه اللي حاصلها يا دكتور؟”
سألته عزيزة فأجاب الأخر
“ما حبيش عليكم جوزها أول ما جابها الطوارئ كان مغمي عليها و وشها كان مايل للأزرق، كأنها في بداية حالة إختناق و زي ما أنتم شايفين كدمات علي وشها وشرخ في دراعها”

شهقت والدتها
“يا ضنايا يا بنتي، منك لله يا سمير الكلب، كنت عايز تكلمة أخرىها”

نظر الطبيب إلي أحلام وأخبرها
“جوز حضرتك هو اللي جابك و أول ما خدناكي عشان نعملك الإسعافات فجأة لاقيناه أختفي”

و إذا بصوت جاء صاحبه للتو من الخارج
“أحلام حبيبتي، عاملة إيه يا روحي؟”

نظر إليه الجميع بازدراء وكذلك زوجته، أخبرهم الطبيب
“كويس أنك جيت عشان الظابط مستني برة يحقق معاك”

اتسعت عينان سمير وشعر ببرودة في أطرافه، رأي نظرة شماتة في عينين كلمة أخرى التي ألتزمت الصمت لأنها تعلم جيداً رد فعل شقيقتها نحو ما فعله زوجها.

ألتفت إلي الطبيب وقال برجاء
“ممكن أقعد مع مراتي دقيقتين؟”

رفع الآخر زاوية فمه جانباً فأشار له علي مضض
“أتفضل، بس ياريت بسرعة عشان الظابط مستعجل”

و ما أن ذهب الطبيب، جلس سمير جوار أحلام، يمسك بيدها يقبل ظهر كفها باعتذار و توسل يثير الاشمئزاز
“أنا آسف يا أحلام، حقك عليا والله أنا مش عارف إزاي ده حصل، أصل مكنتش في وعيي وإحنا بنتخانق، والله أنا ما هقرب منك كدة تاني، حقك عليا و أدي راسك كمان”

قام بتقبيل جبهتها، علقت كلمة أخرى
“بذمتك مش مكسوف من نفسك، بتتأسفلها علي إيه و لا إيه، أنا كان ممكن كنت خليتك رقدت مكان أختي، بس أنا هاخدلها حقها بالقانون، لما تترمي في الحبس ويا الشمامين و البلطجية اللي زيك”

نظر إلي زوجته ثم قال بصدق غير معهود
“و أنا راضي طالما ده هيرضي أحلام وهيخليها تسامحني”

نظرت إليه وكان داخل عينيها آلاف الكلمات قد أدركها جيداً، عتاب ولوم والكيل قد فاض ما به من هموم وأحزان عاشتها بين يديه، حتي حانت تلك اللحظة أخيراً واختارت الصواب، افترقت شفتيها وتفوه لسانها بالطلب الذي وجب أن يحدث منذ البداية
“طلقني”

تلتقط أنفاسها من الآلام، آلام قلبها و آلام جسدها، صعق الآخر لمطلبها فتابعت
“طلقني لو عايزني أسامحك، و هقول للظابط مش إنك اللي عملت فيا كدة”

“انتي بتقولي إيه؟!، ده يطلقك و رجله فوق رقبته و ياخد جزاءه كمان”
صاحت بها كلمة أخرى، فنظرت أحلام إليها بقلة حيلة، عقبت والدتها
“طلقها يابني و سيبها في حالها، المرة دي ربنا ستر وراقدة علي السرير، يا عالم المرة الجاية تجيبهالي بعد الشر عليها جثة”

وجد أن لديهم حق وكفي إلي هنا، كم عانت من بطشه و ظلمه لها، لم يبالي إلي حبها إليه يوماً ويمن عليها بإتمام زواجه منها والذنب الذي حدث بينهما هو الذي تسبب فيه عندما كان يحوم كالذئب حول فريسته، استغل ضعفها وطيبة فؤادها من قبل الزواج وبعد الزواج تحول الإستغلال إلي اضطهاد وقهر.

نهض وفي تردد أنتهي بالاستسلام إلي رغبتها
“أنتي طالق”

صاحت كل من كلمة أخرى وابتسام بسعادة وقاما بمعانقة شقيقتهما
“مبروك يا أحلام، كان زي الهم وإنزاح أخيراً”
كان قول كلمة أخرى فقابلته أحلام بالصمت وتركت دموعها تقوم بالرد.

و بعد إجراء الضابط التحقيق، أنكرت أحلام أن الفاعل زوجها، و ماحدث لها كان أثر سقوطها علي الدرج، يكفي إنها نالت حريتها من هذا الطاغية سمير.

※ ※ ※

في اليوم التالي كانت تقف ابتسام تنظر إلي لافتة عنوان المركز التعليمي، تخشى الصعود إلي أعلي ومواجهة معلمها الذي فرت من أمامه عندما رأي ما حدث بينها و بين عثمان، و كان أكبر مخاوفها هو أن يخبر كلمة أخرى لذا قررت أن تتحدث معه وتشرح له الأمر.

صعدت إلي الطابق الثاني حيث قاعة المحاضرة، مرت أولاً علي المساعد وأخبرته بإسمها لكي يسمح لها بالدخول، و إذا به المساعد يقول لها بجفاء
“ممنوع الدخول”

صاحت بكلمة أخرى
“ممنوع إزاي؟!، أنا دافعة فلوس حصص الشهر كلها مقدماً حتي إسأل مستر حسن”

“مستر حسن اللي بنفسه مديلي أمر بمنع دخولك و ياريت تشوفيلك مدرس تاني غيره”

أدركت معني رسالته إليها و دون مواجهتها، لم تأبه لقساوة رده ذاك، و ذهبت إلي القاعة يحاول المساعد منعها، صاحت برجاء
“مستر حسن”

ألتفت إليها ببرود
“نعم؟”

تأسر دموعها داخل عينيها، تخبره بنبرة سمع منها كم ما تشعر به من حزن و غصة عالقة في حلقها
“ممكن أتكلم مع حضرتك”

نهض من خلف مكتبه المرتفع علي منصة الشرح، ذهب إليها في الخارج
“عايزة إيه يا ابتسام؟”

لم تستطع كبت دموعها أكثر من ذلك، انفجرت باكية
“حضرتك فهمت غلط، كل اللي ما بيني و ما بين عثمان علاقة جيرة و أصحاب مش أكتر”

كان داخله يشفق علي حالتها المؤسفة لكن تظاهر بعكس ذلك
“و أنا مالي، بتبرري ليه؟!، و لا خايفة أحكي لأختك ووالدتك علي اللي شوفته؟”

ابتلعت غصتها وقالت
“لاء، أنا جيتلك عشان أقولك أنا مظلومة أو.. ”

بتر حديثها قبضته التي اعتصرت عضدها يغادر المكان إلي سيارته، يدخلها فجلست وذهب هو ليجلس خلف المقود، قد اشتد كلمة أخرىه إلي ذروته
“مظلومة إزاي و أنا شايفه مقرب منك ولازق فيكي لاء و كمان كان بيبوسك، أنا مش أعمي و لا ساذج عشان أصدق تمثيلك الرخيص”

ابتلعت ريقها لا تدرك بعد ما وراء كلمة أخرى معلمها الثائر، تحسب أنه من دافع الخوف عليها لأن شقيقتها قد أوصته عليها
“والله العظيم ما بمثل، أنا بعتبره فعلاً زي أخويا لكن هو لاء”

“أخوكي!”
ابتسم ساخراً وتابع
“و اللي أنا شوفته ده بيحصل ما بين الأخوات؟”

هزت رأسها بالنفي و مازالت تبكي وتحاول الدفاع عن نفسها و لا تعلم لما كل هذا الإصرار لديها
“لاء، بس أنا ما ليش ذنب و لا أقدر أقوله ما تحبنيش، أنا ببعد عنه كل شوية لكن هو متهور و خايفه جنانه يعمل مشاكل ليا ولأهلي عشان معندناش راجل يقف له، مفيش غير أخويا سعيد ولسه صغير”

تبدلت ملامحه من القسوة والكلمة أخرى إلي اللين
“كان ممكن تحكي لأختك تروح تكلمه و تحطه عند حده أو تكلم أهله، علي الأقل أحسن من مشيك معاه في كل حتة، و لا ركوبك وراه الموتوسيكل بعد ما بتخلصي الدرس”

“عندك حق، أنا معرفتش أتصرف، أنا أصلاً ما بكلمهوش من وقت ما شوفتنا وعملاله بلوك كمان عشان لو حاول يتصل عليا”

لا ينكر السعادة التي يشعر بها حالياً، فأخبرها بجدية زائفة
“كل اللي قولتيه ده ما يخصنيش، أنا اللي أعرفه المفروض سيادتك في تالتة ثانوي وفاضل شهر ونص علي الإمتحانات، يعني تركزي في مذكراتك اللي هاتنفعك، و زي ما قولتلك قبل كدة أي حاجة أنتي محتاجها أنا موجود، و اللي اسمه عثمان لو أتعرضلك تاني بلغيني و أنا هاتصرف من غير ما يوصل الموضوع لوالدتك أو أختك، أتفقنا؟”

هزت رأسها بالموافقة، فابتسم وتابع بنبرة حانية
“متزعليش مني عشان شديت معاكي في الكلام وقسيت، ساعات قسوتنا بتكون دافع من خوفنا علي اللي بنحبهم”

نظرت إلي عينيه وأقسمت داخل نفسها رؤية ما ينبض به قلبه، و كأن كلماته الأخيرة إعترافاً مبيناً.

※ ※ ※

مر يومان وليس بجديد بل كان الحال سيئاً لدي كلمة أخرى، نفذت لديها النقود و لا تعلم ماذا عساها أن تفعل، كلما تتقدم إلي العمل في متجر أو مطعم يعتذر إليها صاحبه ويخبرها إنه مكتفي بالعمالة التي لديه.

والآن تجلس بقلة حيلة حتي تذكرت أمر البطاقة الورقية والتي يتوسطها
«يوسف رأفت الشريف» بالإنجليزية
※ ※ ※

و بداخل محطة القطار تقف في انتظار هذا القادم نحوها، يبتسم إليها
“كنت متوقع إنك هتكلميني في خلال يومين”

ابتسمت فسألته
“و إيه اللي خلاك واثق أوي كدة؟”

“إحساسي”

أخبرته بتحفظ وجدية
“أنا أتصلت بحضرتك و طلبت أقابلك عشان محتاجة شغل، إن شاء الله حتي لو أشتغل في المصنع أي حاجة”

“فيه شغل بس مش في المصنع، في الشركة عندنا”

“طب هاشتغل إيه، أنا للأسف خرجت من سنة تانية كلية ومكملتش بسبب الشغل و الظروف الصعبة اللي بنمر بيها”

“أطمني كل أوراقك اللي الشركة محتاجها هاتكون جاهزة، و أي حاجة أنتي محتاجها أطلبيها علي طول”
أخرج من جيبه ظرف أبيض قد أخذ محتواه من صاحبه سلفاً ريثما يعود إلي العمل في شركة والده مجدداً.
“أتفضلي خلي دول معاكي هتحتاجيهم”

“شكراً يا يوسف بيه، أنا مش عايزة فلوس، أنا كل اللي محتاجاه شغل و بس”

“يا ستي اعتبريهم سلف لحد ما تشتغلي، الشركة عندنا بتهتم بالمظهر الخارجي للموظف، و هتحتاجي لبس ومصاريف، و بعدين هيكونوا عارفين إنك من تابعي”

شعرت بالحرج والخجل فتابع حديثه
“ما تتكسفيش يا كلمة أخرى، اللي بعمله معاكي ما يجيش نص وقفتك معانا، ماتعرفيش لما قدرنا نوصل للي بيخسرنا شغلنا فرحنا قد إيه و المكاسب و الأرباح اللي هاتعوض خسارة كبيرة حصلت الأيام اللي فاتت، كل واحد فينا ربنا بعته للتاني عشان يخرجه من المحنة اللي هو فيها”

كم أسعد حديثه قلبها، و ها هي الحياة قد ضحكت من جديد لها وسترى السعادة لاحقاً

※ ※ ※

ترجلت سوزي من سيارة الأجرة أمام البناء المدون عنوانه لديها في الرسالة، وفي الأعلى كان نور منتظراً علي أحر من الجمر، ينظر إلي عقد ملكية الشقة بسعادة، هدية قيمة سيقدمها كعربون محبة ليدلي به لها عن حبه الصادق.

رنين الجرس مثل دقات قلبه التي تخفق للتو، ذهب ليستقبلها بحفاوة
“هاي”
حدق إليها بقلبه وليس بعينيه، سعادة عارمة علي وجهه ومحياه
“ما تتصوريش أنا فرحان قد إيه، خوفت لا ماتجيش”

ابتسمت وليتها ما فعلت ذلك، ابتسامتها أوقعته أسيراً في سحرها
“هو كان صعب عليا، بس أي صعب يهون عشانك”

“لاء أنا مش قدك و لا قد كلامك، أنا يا سوزي خلاص مابقتش قادر أستحمل وأنتي بعيدة عني أكتر من كدة، لازم نتجوز بسرعة، الشقة أهي جاهزة من كل حاجة وعقدها واقف علي إمضتك، دي أول هدية غير هدايا كتير لسه هجيبهالك”

أخذت من يده العقد و لم تصدق ما تراه، كم هو سخي معها نقيض والده الحريص، لذا لا تتركه فهو كنز ثمين عليها أن تغتنمه وتخرج بربح وفير خلال مهلة قصيرة.

“حبيبي يا نور، مش عارفة أقولك إيه، أحليو أجمل هدية”

أخرجت قلم من حقيبة يدها
“و أدي إمضتي أهي”

اقترب منها نور وحاوط خصرها
“عقبال إمضتك علي قسيمة جوازنا”

رسمت ابتسامة زائفة علي شفتيها
“إن شاء الله يا حبيبي”

“طيب مفيش حاجة بمناسبة الهدية اللي عاجبتك؟”

تدرك مبتغاه فتظاهرت بعدم الفهم
“حاجة إيه؟”

اقترب بشفتيه من وجهها
“حاجة زي كدة”
يقبلها بنهم نابع من شوق وعشق لا يعلم إنه سينتهي قبل أن يبدأ عندما تنكشف له الفاجعة.

تحولت قبلاته إلي لمسات تجاوز بها كل الحدود وكاد يتمادي، و إذا استسلمت له سينكشف أمرها بسهولة أمامه، فهو يعلم من بياناتها في الشركة إنها آنسة لم يسبق لها الزواج.

دفعته عنها وتصنعت الخوف والخجل
“نور، كفاية لحد كدة، لما أبقي مراتك أعمل اللي أنت عايزه”

“حبيبتي آسف، حقك عليا، من كتر شوقي ليكي مقدرتش أسيطر علي نفسي، أوعدك مش هقرب منك غير لما نتجوز، بس قولي أنتي الوقت المناسب ليكي”

ابتسمت بدهاء حية رقطاء
“بعد شهرين هاكون دبرت أموري”

“شهرين!، كده كتير”

“معلش استحمل يا حبيبي، هيعدوا بسرعة و هانكون مع بعض، خلاص؟”
أومأ لها بهيام
“موافق، المهم هاتكوني معايا وملكي في الأخر و مش هاسيبك أبداً”

و كم من أمنية يتمناها المرء فتأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن!

يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
4

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل