
الفصل الأول
توسط قرص الشمس سماء النهار ، لتعلن عن وقت الظهيرة .. فشاعت حرارتها و ضوئها في كل مكان ..
بأحد الأحياء الشعبية بالقاهرة ، حيث الازدحام و التكدس .. و الأرجل المتسارعة للعودة إلى المنزل للحصول على قسطاً من الراحة بعد فترات العمل الصباحية ، و غيرهم من يسرع إلى بداية يومه العملي الشاق .. و أصوات الرجال يتحدثوا بمجالسهم على المقاهي ، و أصوات النساء يتضاحكن من الشرفات ، و بعضهن من يشتبكن سوياً لسوء تفاهم بينهن .. و يلفظن بعضهن بأسوأ الالقاب .. و أصوات الأطفال يلهون و يركضون بالحارة .. نعم فكل هذه الأجواء متواجدة بالأحياء الشعبية فقط …
فُتح باب الشقة لتدخل تلك الفتاه البالغة عشرون عاماً ، ترتدي تنوره طويله باللون البني ، و بلوزة بأكمام ذات لون اخضر ، و تضع وشاحاً علي رأسها ..
و ما أن دخلت إلي الشقة ذات الطراز البسيط ، حتي أزاحت الحجاب عن رأسها ، لتظهر خصلات شعرها البنيه الطويلة التي تصل إلى نهاية ظهرها و المموجة ، و وجهها المبتسم الذي يعطيها جمالاً واضحاً و نُضرة ، رغم ملامحها الدالة علي كونها فتاه مصريه أصيله متأصله .
جلست علي الأريكة الباليه ، و وضعت بجانبها بعض الحقائب البلاستيكية التي كانت بحوزتها ، و ظلت تعبث بها ، صائحة : ” أنا جبت الطلبات اللي أنتِ عايزاها يا امه .. ”
و لكن لم يأتيها أي رد ، فوقفت و سارت بالصالة ، حتي وصلت إلي مدخل المطبخ ، و استندت بذراعها الأيمن علي الجدار المتآكل ، و وضعت يدها اليسرى في منتصف خصرها ، قائله بابتسامه : ” أنا بنده عليكِ و أنتِ هنا في المطبخ .. ”
نظرت إليها تلك المرأة الواقفة أمام حوض المياه المسماة ( فاطمه ) ، بدينة الجسد قليلاً سمراء البشرة .. ذات تجاعيد بسيطة بوجهها ، ترتدي عباءه منزليه باليه ، و تضع حجاب صغير علي رأسها ، يظهر منه بعد الخصلات البيضاء التي تركها لها الزمن ، و ابتسمت قائلة : ” جيتِ أمتي يا سمرا .. أنا ماحستش بيكِ ..! ”
أنزلت سمرا ذراعها ، و اقتربت من والدتها ، و أخذت تلك الأطباق المتسخة من يديها قائله .
” سيبي الأطباق دي من أيدك يا امه .. أنا هغسلها . ”
ابتسمت فاطمه قائله برضي : ” ربنا يخليكِ لي يا سمرا ، ده أنتِ يا حبة عيني شلتى الهم بدري بدري . ”
” قوليلي يا امه.. هي ألاء راحت مدرستها ..!؟ ”
سحبت فاطمه أحد المقاعد الخشبية الموضوعة بالقرب من طاوله بالمطبخ ، و جلست عليه ، و أمسكت بسكين حاد لتكمل تقطيع الخضراوات قائله بهدوء : ” أيوه راحت و جات من شويه ، قبل ما أنتِ تيجي من السوق على طول وراحت تذاكر مع صاحبتها ”
و من ثم أطلقت تنهيدة حزينة قبل أن تتابع : ” ياما كان نفسي أنتِ كمان يا سمرا تكملي علامك .. أنتِ كنتِ شاطره أوي يا حبيبتي ..! ”
تركت سمرا الأطباق من يديها ، و جففت كلتاهما بالمنشفة ، و اقتربت من والدتها لتحتضنها قائلة بحب : ” كفاية شهادة الدبلوم يا امه .. و أهو بشتغل عشان نكفي المصاريف بالعافية الدنيا بقيت صعبه أوي و الجاي على قد اللي رايح .. خصوصاً إننا ولايا لوحدنا الكل عاوز ينهش لحمنا . ”
وضعت فاطمه كفها علي يد ابنتها ، قائله بابتسامة منكسرة و عبره تكاد تسقط من عينها : ” بس أنا عارفه إنك بنت بمية راجل يا سمرا .. محدش يقدر يكلمك ربنا يرحمك يا عبد العزيز سبتنا ولايا ملناش ضهر في الدنيا . ”
مدت سمرا أصبعها ، لتمسح تلك العبرة التي سقطت من عين والدتها قائلة بابتسامة : ” ربنا يرحمه يا أمي .. ماتخفيش هنفضل سوا و نحارب و ألاء هتكمل تعليمها و تحقق اللي أنا ماقدرتش أحققه . ”
حركت فاطمه رأسها بالموافقة ، و ابتسمت من بين عبراتها ، ثم وقفت قائله قبل أن تخرج : ” سمرا .. جمال جه و سأل عليكِ و شكله زعلان ، حاولي تتصلي بيه و تشوفي ماله .”
تنفست سمرا بهدوء ، ثم قالت بتفهم : ” جمال عمال يكلمني على موضوع جوازنا ، بس أنا قولتله لسه مش مستعده ، لازم يسيبني فترة ألحق أخلص فيها جهازي . ”
” جمال شاريكِ يا بنتي .. حاولي أنك تفهميه . ”
ابتسمت سمرا قائله بهدوء : ” ماتشيليش هم أنا هكلمه ، و أحاول أقنعه إننا نأجل الجواز حتى سنه تانيه ، أكون خلصت لوازمي . ”
” اللي يريحك يا ضنايا .. بس حاولى تطلعي النهارده بالليل مع رباب تشتري شوية لوازم ليكِ .. حتى الهم يخف شويه . ”
حركت سمرا رأسها بالموافقة ، قائلة : ” حاضر ياامه .. كل حاجه هتبقي كويسة إن شاء الله ماتعوليش هم أنتِ . ”
” ربنا يسعدك يا سمرا . ”
قالتها فاطمه قبل أن تخرج من المطبخ ، و تترك سمرا لتنجز ما تبقي من تنظيف ..
…………………………………….
الولايات المتحدة الأمريكية ،
نيويورك ،،،
غرفة ضخمة ، تحتوي علي مكتب مُصمم علي أحدث طراز من الزجاج ، و بخلفه مقعد جلدي ضخم ، و أمامه مقعدين من الجلد بينهم طاوله مستديره من الزجاج ، و من الجانب الأخر من الغرفة ، توجد أريكه اسفنجية ضخمه ، وكم من اللوحات الفنية ذات الطراز العتيق ، مُعلقه بكافة جدران الغرفة ..
فُتح باب الغرفة ، ليدخل ذلك الشاب ، مفتول العضلات ، ذو البشرة الخمرية ، و الأعين الرمادية الحادة كأعين الثعلب التي تحوي مكر لأبعد حد ، لديه من العمر ثلاث و ثلاثون عاماً شعر اسود كثيف ، و لحيه خفيفة ، يرتدي حله سوداء مرتبه .
خلع جاكت بذلته ، و وضعه علي ظهر المقعد الجلدي الضخم ، و من ثم جلس علي المقعد ، و فك أزرار قميصه العليا ، و أزرار الأكمام ، ثم ضغط علي زر مثبت بالمكتب .
بعد عدة لحظات ، دخلت شابه في منتصف عقدها الثاني ، ترتدي تنوره قصيره بالكاد تصل إلي ركبتيها ، و جاكت ، لها شعر قصير باللون الأشقر تسمي ( أنجيلا ) ،
بحوزتها بعض الأوراق ، قائله بنبره رسميه أجنبيه : ” ماذا هناك مستر شاهر . ”
نظر إليها شاهر بنظرات ثابته ، و من ثم ضم قبضتي يده و وضعهما أسفل ذقنه قائلا بهدوء : ” قومي بحجز تذكرة العودة .. سأعود إلي القاهرة غداً ..! ”
” لكن مستر شاهر ، قد أتصل بيبرس ليخبرك أن مستر ديفيد يريد مقابلتك . ”
وقف شاهر مشدوهاً ، قائلاً بغضب : ” متي أتصل بيبرس ..!؟ ”
ارتعدت أنجيلا من غضب شاهر ، و تراجعت عدة خطوات للخلف ، و حاولت أن تدعي الثبات قائله بنبره مهتزة : ” بالأمس .. قد أتصل بالأمس ..! ”
ضرب شاهر المكتب بقبضة يده قائلاً بغضب : ” و لمَ لم تخبريني حينها .. ألا تعلمي أنجيلا ما الذي ممكن أن يفعله مستر ديفيد بنا إن تأخرنا عليه ..! ”
تسربت قشعريرة بجسد أنجيلا ، بمجرد ذكر العقاب الذي ستتعرض له إذا لم تصغي فوراً لأوامر ذلك المدعو ديفيد ، و ازدردت لعابها بخوف تام ، قائله بنبرة مهتزة : ” ..آآ.. أسفه مستر .. شاهر .. ماذا تطلب مني حالاً .. لأفعله ..؟ ”
حدق بها شاهر بنظرات مميته ، قائلاً بهدوء قاتل : ” أذهبِ أنت .. و إن أتصل بيبرس ثانيه أخبريه بقدومي .. انتظري .. أنا ذاهب لمقابلته الآن. ”
أكتفت أنجيلا بتحريك رأسها بالموافقة ، و هرولت للخارج . ”
جلس علي مقعده الجلدي ، و حدق بنقطة ما بالفراغ ، قائلا بغضب مكتوم : ” و أخيراً هرجع مصر و ألاقيكِ يا نسرين ..! ”
ثم وقف و ألتقط جاكته ليتجه خارج المكتب .
………….
نيويورك ،،،
في أحد المناطق النائية ، الخاوية تماماً من السكان …
طرق أثنين من الحراس باب غرفة مكتب ، و ما أن سمعوا أمر دخولهم ، حتي دخلوا ، و ألقوا بذلك الرجل الذي كان معهم علي الأرضية الرخامية .
فأشار لهم ذلك الرجل ذو اللحية الخفيفة و الشعر البنى الداكن بيديه ليخرجوا ، فانصاعوا لأوامره و خرجوا .
أبتسم بيبرس ابتسامة شيطانيه و هو ينظر إلي الرجل المُلقي علي الأرضية ، مقيد الأيدي ، و من ثم وضع كف يده علي المقعد الجلدي قائلاً : ” مستر ديفيد .. لقد أحضر الحرس كامل . ”
ألتف المقعد الجلد ، ليقف ذلك الرجل ذو العقد الخامس ، و الذي تبدو عليه هيبه مريبة ، بدين الجسد قليلاً ، و يخط شعره بعض الخصلات البيضاء ، يرتدي حُله مرتبه ، و يمسك بيده سيجاره فاخره .
نفث دخان سيجارته ، موجها حديثه إلي بيبرس الواقف إلي جواره : ” فُك قيده .. بيبرس ”
أبتسم بيبرس قائلاً : ” أوامرك سيدي . ”
و بالفعل أنصاع بيبرس لأوامره ، و توجه ناحية الرجل المُلقي علي الأرضية ، و فك قيده ، و عاد ليقف بجوار ديفيد .
رفع كامل وجهه ناحية ديفيد ، و وقف و أقترب منه بسرعه ، و العبرات تنهمر على وجنتيه قائلاً برجاء ، و هو يحاول أن يقبل يدي ديفيد و قدميه : ” سامحني مستر ديفيد .. أرجوك .. هذه المرة الأولي و الأخيرة و لن تتكرر ، أعدك بذلك …! ”
أزاح ديفيد كامل بقده بعيداً ، صائحاً بغضب : ” أنا لا أرحم .. و الخطأ الأول بالنسبة لي ، هو خطأك الأخير ، و ثمنه عمرك …! ”
جلس كامل علي ركبتيه ، قائلاً بتوسل و رجاء قاتل و ندم حقيقي : ” سامحني .. و خذ كل أموالي .. و أعدك أنك لن تري وجهي م رة ثانيه .. و لكن أرحمني .. ”
ضحك ديفيد بسخريه ،معلقاً : ” هل تعتقد أنك إذا اختبأت ، إني لن أجدك ..!
أنا أستطيع الوصول إليك ، حتي إن كنت تختبئ في وسط المحيط الهادي . ”
ثم تابع و هو يجلس علي مقعده : ” جعلتك مسئول عن أعمالي بمصر ، و لكنك أحضرت فتيات و جعلتهن يعملن لصالحك و بدون علمي ، كنت تعتقد أنني لن أعلم ، و لكن ما لا تعلمه أنت أنني أعلم عدد الأنفاس التي تتنفسها يومياً . ”
رفع كامل وجهه ناحية ديفيد ، و ضم كلتا يديه معاً ، قائلاً بتوسل و العبرات تملأ وجهه : ” لن تتكرر .. سامحني . ”
وقف ديفيد ، و أتجه ناحية كامل ، و مال بجزعه قليلاً ناحيته ، و هو يضم كلتا يديه خلف ظهره : ” أعذرني … خطأك هذا ، قد كلفك حياتك .. بيبرس ..! ”
أبتسم بيبرس قائلاً : ” سيدي . ”
أشار له ديفيد و عاد ليجلس علي مقعده مرة أخري ، بينما أخرج بيبرس سلاحه ، و أطلق رصاصه لتسكن بصدر كامل ذلك الخائن _بوجهة نظرهم_ دون أن تهتز له شعره أو ينتفض له جفن .!
بينما أصدر كامل آخر صرخة له دوت بكل ، قبل أن يفارق الحياه .
…………..
أعتلي ثغر ديفيد ابتسامة وضيعة ، ثم أشار بيده إلي بيبرس قائلاً :”أستدعي الحرس ليتخلصوا من هذه الجثة فوراً”
“أوامرك سيدي”
و بالفعل توجه بيبرس للخارج و أحضر الحراس الذين قاموا بحمل جثة كامل للتخلص منها كما امرهم ديفيد ، و من ثم جلس قبالة ديفيد و مد يده ممسكاً بقداحه ليشعل سيجارة ديفيد
أبتسم ديفيد و قرب سيجارته الفاخرة من فمه قائلاً :”ما يعجبني بك يا بيبرس أنك خادمي المُطيع”
أبتسم بيبرس و هو يستند بظه ره للخلف قائلاً بمكر :”أنا مُجيب أوامرك سيدي”
“حسناً أخبرني ، هل أتصلت بشاهر !؟”
” نعم قد أتصلت و لكن أخبرتني سكرتيرته أنه مشغول”
ضرب ديفيد بقبضة يده على المكتب قائلاً بغضب :” كيف أتتها الجرأة أن تخبرك بهذا ألا تعلم من أنا”
كاد أن يتحدث بيبرس حتى قطع الكلام صوت طرقات على الباب الغرفة فـ أذن بيبرس للطارق بالدخول ،ليدخل أحد الحرس قائلاً :” قد وصل مستر شاهر بالخارج و يريد مقابلتك سيدي”
أشار ديفيد بأصبعه قائلاً :”دعه يدخل”
حرك الحارس رأسه بالموافقة و توجه للخارج ، و بعد لحظات فُتح الباب مرة أخري ليدخل شاهر و صافح كلاً من ديفيد و بيبرس ، ثم جلس على المقعد المواجه لبيبرس ، و ألتفت بوجهه ناحية ديفيد قائلاً :” أخبرتني أنجيلا أنك تريد مقابلتي ماذا هناك”
أبتسم ديفيد بمكر ، بينا تحدث بيبرس قائلاً :” مستر ديفيد يريدك أن تكون المسئول عن أعماله بمصر ”
عقد شاهر حاجبيه متسائلاً :” الم يكن كامل هو المسئول عن هذا ”
وقف ديفيد و ألتف حول المكتب ، و ما أن فعل هذا حتى وقف بيبرس عن مقعده فأبتسم ديفيد و هو يجلس على مقعد بيبرس ، ثم مال بجزعه قليلاً ناحية شاهر ، و لمعت عيناه بمكر وهو يضع كفه على فخذ شاهر قائلاً :” كامل كان خائناً و قد علمنا بهذا لذلك أنت من ستكون بمكانه”
ثم أبتعد ليريح ظهره على خلفية المقعد متابعاً بخبث :” و إنها فرصه ثمينة لك حتى تعود إلى موطنك !”
حرك شاهر رأسه بالموافقة ، ثم وقف و هو يغلق زر بذلته قائلاً :” حسناً أتفقنا .. إلي اللقاء إذاً”
اومأ ديفيد برأسه بالإيجاب و هو يشير بكفه ناحي الباب ، و أتجه شاهر للخارج ليختفي عن مرمى نظرهم
جلس بيبرس على مقعد شاهر قائلاً بضيق :” لست مطمئن ناحية هذا المسمى شاهر”
نفث ديفيد دخان سيجارته بالهواء و لمعت عينا بمكر قائلاً :” أطمئن شاهر جدير بالثقة ، و قد أثبت وجوده منذ أن عمل معنا !”
انقلبت نعالم وجه بيبرس عندما وجد ديفيد يمدح بذلك الشاهر .
……………………………
بالقاهرة ،،
دخلت سمرا غرفتها و بدلت ثيابها بآخري عباره عن تنوره طويله باللون البنفسجي و بدي باللون الأصفر و ألقت حجاباً على رأسها مزيج من اللونين ، و خرجت لتجد أختها الصغيرة آلاء تمسك كتاباً و تدرس به ، فتوجهت ناحيتها و قبّلتها مازحه إياها بـ :” شطوره يا حبيبتي و ذاكري عشان تنجحي و أجبلك هدية حلوة ”
ابتسمت آلاء و رفعت وجهها لتنظر إلى أختها قائله :”لا أنا نفسي النهارده في بسبوسة ”
“آلاء مش قولنا كفاية طلبات عايزين نمسك أيدينا شويه”
قالتها فاطمه بشيء من العصبية و هي تجلس على أحدي الأرائك و تفرك قدميها .
حزنت آلاء و وقفت لتتجه إلى الغرفة قائلة بتذمر :” يعنى أحنا بنجيب كتير ، أحنا مش بنجيب حاجه خالص فين الطلبات دي”
ظلت سمرا مثبته نظرها على أختها حتى اختفت بغرفتها و معالم الحزن ترتسم على وجهها ، ثم جلست بجوار والدتها و هي تنظر إلى أسفل
حركت فاطمه رأسها بيأس ، ثم رفعت كفها لتمسح على ظهر سمرا قائله بهدوء :” ماتزعليش منها يا سمرا هي عيله مش مقدره الظروف”
رفعت سمرا وجهها لتنظر إلى والدتها و قد لمعت عيناها العسلي بحزن عميق استشعرته فاطمه قائله :” أنا مش زعلانه منها يا امه ، أنا زعلانه عليها نفسي تقولي أنا عاوزة كذا أجيبهولها على طول ، مش أحس بالعجز بالشكل ده”
أخذت فاطمه نفساً طويلاً و زفرته على مهل قبل أن تقول:” أنا هنزل الشغل من بكره يا بنتي .. مش هينفع الحال المايل ده أيد على أيد تساعد برضه!”
هزت سمرا رأسها بالاعتراض هاتفة :” لا يا حبيبتي أنتِ رجليكِ تعباكِ و مش حمل خدمة البيوت دي ، أنا هدور على شغل تانى غير ده”
” يا بنتى بصي لنفسك في المراية بقيتي أزاي ، أنتِ من صبحية ربنا بتروحى المحل تفضلي لحد العصر ، و بعد كده بتيجى تشوفي البيت ، أنا عايزة أخفف عنك الحمل شويه”
ابتسمت سمرا و وضعت كفها علي ذراع والدته قائله بعذوب :” أنا ما اشتكتش يا حبيبتي و لا قولت إني تعبانة ”
” من غير ما تشتكي أنا حاسة بيكِ”
تماسكت سمرا حتى لا تذرف عبراتها ، ثم وقفت و التقطت حقيبة يدها قائله بابتسامة لتخفي ما بها من ضيق:” شوفتي الكلام خدنا و نسيت البت رباب اللي مستنيانى على أول الحارة ”
” روحي يا بنتي ربنا يسترها عليكِ و يكفيكِ شر ولاد الحرام”
توجهت سمرا ناحية باب الشقة و خرجت متوجهه إلى أسفل ، بينما انسابت العبرات على وجنتي فاطمه و رفعت كفيها إلى أعلى داعيه بـ:” يا رب أسترها عليها يا رب و أحميها”
ما أن نزلت سمرا درجات السلم حتى تتفاجأ بمن يقف بانتظارها و يسد المدخل بذراعه فشهقت بفزع و تراجعت للخلف ، عقد الرجل حاجبيه و مسح طرف أنفه بأصبعه قائلاً بتهكم :”مالك يا بت أتخضيتي ليه كده شوفتي عفريت ولا أيه”
أخذت سمرا نفساً محاولة السيطرة على حالة الهلع التي ملكت منها ، و نفخت بضيق قائلة :” أنا مش قولتلك مية مره يا جمال بلاش تقفلي كده في بير السلم ، أفرض حد من الجيران شافك هيبقي أيه منظري أنا!”
أبتسم جمال بسخريه و حاول أن يلف ذراعه حول خصر سمرا قائلاً بمكر:” الى يشوف يشوف ، أنا جاي لخطيبتي ، و بعدين بقولك أيه تعالى كده يا بت أنتِ وحشاني”
حاولت سمرا أبعاد جمال عنها قائله بضيق:” أبعد كده يا جمال أنت مجنون!”
أبتعد جمال عنها و نفخ بضيق معلقاً بـ:” أووووف ، بعدت أهو و مجنون عشان نفسي أخدك في حضني يا بت ، ما هو لو أنتِ تخلصي بقي و نتجوز ”
ضربت سمرا بكفها على صدر جمال و هي تقول بسخرية :” ربك يسهل ، و قولتلك كتير بلاش الحركات النص كم دي ماشـ..”
بترت جملتها عندما وجدت الجارة عنايات ظهرت أمامها فجأة ، فابتلعت لعابها بصعوبة قائلة بتوتر :”أزيك يا خالتي عنايات ؟”
لم تُجيب عنايات عليها ، فقط وضعت يد على يد و لوت فمها باشمئزاز بينما خرج منها صوت مصمصه ساخر ، و بعدها اتجهت إلى أعلى .
ألتفتت سمرا ناحية جمال و لكزته بكتفه قائله بغضب :” عاجبك كده أهي الست أم لسان دي شافتنا و أكيد فهمت غلط”
أبتسم جمال قائلاً و هو يحاول أن يحضن سمرا ثانيةً :” طيب طالما كده كده شافتنا يبقي تعالى يا قلب جمال ”
أزاحته سمرا بقوة لا تعرف من أين أتتها حتى كاد هو أن يسقط أرضاً قائله بضيق قبل أن تخرج من المبنى :” يا أخي أوعي كده من سكتي !”
بعد أن خرجت سمرا من الباب ، جلس جمال على أحدى درجات السلم و ضيق عيناه و هو يحك ذقنه قائلاً :” ماشي يا سمرا .. عماله تماطلي معايا بس هانت!”
……………………………
نفخت رباب بضيق و هي تنظر إلي ساعة يدها ، و تتلفت حولها حتى لمحت سمرا قادمه ناحيتها فاقتربت منها قائله بعتاب :” كده برضه يا سمرا بقالي ساعه مستنياكِ و أنتِ ركناني و لا سألتي !”
عدلت سمرا من وضعية حجابها و هي تلهث قائلة باعتذار :” حقك عليا يا ستي ، بس أعمل أيه المنيل طلعلى تانى!”
” قصدك جمال!؟”
” اه هو سي زفت ، لولا أمي هتزعل و تضايق كنت فركش الخطوبة بتاعتي هو لازقلي في الرايحة و الجاية كده و أنا و ربي و لا طايقاه !”
عقدت رباب حاجبيها و وقفت عن السير متسائلة :” هو لسه بيحاول يمد أيده عليكِ !؟”
لوت سمرا فمها بضيق و ضربت كفاً بكف قائله :” و هو من أمتى محاولش يا ختي ، و بعدين أنتِ وقفتي ليه يلا بينا يا ختي عشان مانتأخرش”
قالت سمرا جملتها الأخيرة و هي تجذب يد صديقتها ليتابعا السير .
………………
ظلت كلاً من سمرا و رباب يدوران على المحلات لشراء ما يروق لهم بسعر مناسب في مقدرتهم ، حتى وقفتا أمام أحدي محلات الأدوات المنزلية بالسوق
لمحت سمرا أحد أطقم الأكواب التي حاز على أعجابها بدرجه كبيره
فالتفتت رباب إليها متسائلة :” عجبك ده ”
لمعت عيني سمرا ببارق الأعجاب و هي تحمله بين يديها قائله :”اه أوى ”
” طيب خلاص أشتريه ”
رفعت سمرا وجهها ناحية صديقتها قائله بحزن:” بس ده بتمانين جنيه!”
وضعت رباب كفها على كتف سمرا لتقول:” طيب مش أنتِ قولتي باقي معاكِ تسعين جنيه!؟”
” اه .. بس ، أصل ”
” بس أيه و أصل أيه يا سمرا ، الطقم عجبك و معاكِ تمنه خلاص أشتريه”
” لا يا ستي أنا لازم أوفر عشرين جنيه من الفلوس”
عقدت رباب حاجبيها متسائلة :” أشمعنا يعنى عشرين جنيه!؟”
” أنا عايزاهم ، محتاجاهم”
” طيب براحتك ، و لا بقولك أستني كده نفاصل مع صاحب المحل”
ابتسمت سمرا قائلة :” ماشي”
ألتفت رباب ناحية الرجل هاتفه:” بقولك أيه يا عم أحنا الطقم ده عجبنا و هناخده ”
أبتسم الرجل و تناول أحد الأكياس البلاستيكية و أتجه ناحيتهم قائلاً:” تحت أمركم يا عرايس ، ده بتمانين جنيه”
” لا هو حلو عليه سبعين جنيه هي اللي معانا ، مش كده يا سمرا !؟”
حركت سمرا رأسها بالإيجاب و مازالت تمسك به بين يديها ، في حين ألقي الرجل الكيس بعيداً و أتجه ناحية سمرا و جذبه من ذراعيها قائلاً بضيق :” لا ماينفعش مش معاكم ماتشتروش ، ده واقع عليا بخمسة و سبعين أديهولك أنتِ بسبعين و فين حسنتي فيه إن شاء الله”
كادت رباب أن تجيب حتى أمسكت سمرا ذراعها قائله و هي تَهم بالرحيل :” خلاص يلا بينا يا رباب مالوش لازمة الكلام”
سارت الفتاتان إلى طريق العودة بينما ضربت رباب كفاً بكف قائله :” هموت و أعرف لمَ الطقم عجبك و معاكِ فلوسه ماجبتهوش ليه ، يا بنتى ده لقطة بالسعر ده”
” معلش بقي ماليش نصيب”
وقفت رباب قائلة :” طيب يا ستي أنا هسيبك هنا لأن الحارة أهي ، هتروحى أنتِ و لا أيه!:”
حركت سمرا رأسها بالموافقة قائلة :” اه هروح خلاص مع السلامة أنتِ ”
” سلام يا روحي”
ودعت الفتاتان بعضهما و اتجهت رباب صوب حارتها ، بينما اتجهت سمرا ناحية أحد محلات الحلوى ..!
…………………..
سمعت فاطمه صوت المفتاح يُدار بالباب ، فعلمت على الفور بحضور سمرا ، و ما هي إلا لحظات و كانت سمرا ماثله أمام والدتها و تسألها:” امُال فين آلاء يا امه ؟”
عقدت فاطمه حاجبيها قائلة و هي تشير نحو أحدى الغرف :” نايمة جوه ، بس بتسألي ليه ، و بعدين جبتي اللي أنتِ عايزاه كله و لا أيه !؟”
تركت سمر بعض الحقائب بالأرضية باستثناء حقيبة واحده وضعتها على الطاولة قائله :” اه يا امه جبت اللي لازمني ”
ثم توجهت إلى الغرفة ، بينما نظرت فاطمه إلي محتوى الكيس ، و رفعت وجهها لتنظرت في تجاه الغرفة و هزت رأسها محدثه نفسها :” كنت عارفه إنك هتعملي كده يا سمرا !”
فتحت الباب و اتجهت نحو الفراش الذى تنام عليه أختها و احتضنتها قائلة :” لولو حبيبة قلبي لسه زعلانه منى!؟”
أدعت آلاء النوم و تقلبت على الناحية الأخري
بينما وقفت سمرا و عقدت ذراعيها أمام صدرها قائله بمزاح :” طيب براحتك ، أروح أكل أنا و ماما البسبوسة لوحدنا ”
كادت سمرا أن تخرج من باب الغرفة حتى وجدت آلاء تسبقها إلى الخارج و هي تهتف بفرحة ، و توجهت سمرا لتحضر الأطباق من المطبخ و جلسوا ثلاثتهم يتشاركوا الحلوى ، و قضين ليله تملئها الألفة سوياً .
……………………..
داعبت أشعت الشمس الذهبية بشرة سمرا ، فتضايقت هي و جذبت الغطاء لتغطى وجهها ، و ما هي إلا لحظات حتى انتفضت من نومتها و جذبت الساعة من جوارها لتتفاجأ أنها الثامنة صباحاً ، فهرولت نحو المرحاض خارج الغرفة لتتوضأ ثم خرجت و عادت سريعاً إلي غرفتها متوجهه نحو خزانة الملابس و أخرجت ملابسها و ارتدتها على عجالة و أقامت فرضها ، و خرجت ثم فتحت باب الغرفة التي تنام بها والدتها و أختها هاتفة :” ماما أنا اتأخرت على الشغل أنا ماشية ”
استيقظت فاطمه من نومها و نهضت عن الفراش متوجها خارج الغرفة و هي تقول :” طيب أستني نفطر سوا يا حبيبتي”
قبّلت سمرا يد والدتها و اتجهت نحو باب الشقة هاتفة :” لا نفطر أيه … أنا يدوب ألحق الأتوبيس ”
” طيب بلاش أهمال و أفطري في الشغل ماشي ”
ابتسمت قائلة قبل أن ترحل :” حاضر لا إله ألا الله ”
” محمد رسول الله ”
بعد أن رحلت سمرا ، جلست فاطمه على الأريكة و فكرت للحظات ، ثم هَمت إلي الغرفة لأيقاظ آلاء و هي تنوى علي فعل شيء بعد رحيل ابنتها إلى مدرستها .
………………..
كان سمرا تسير بخطوات تشبه الركض حتى وصلت إلى موقف الأتوبيس و لسوء حظها وجدت أن الحافلة قد رحلت .
نفخت بضيق و هي تتلفت حولها قائله :” يعنى هي كانت ناقصه تأخير ”
ثم فتحت حافظة نقودها و نظرت بها ، و أغلقتها ثانية لترفع ذراعها و تشير بيدها لا لتوقف أحد سيارات الأجرة .
وقفت أحد السيارات و نظر سائقها من النافذة و هو يسند بذراعه على حافته و هو يحدق بسمرا .
مالت سمرا ناحيته قائله :” توديني ____ ”
أشار السائق بكفه قائلاً :” أطلعي ”
” بس هتاخد كام الأول ”
” عشره جنيه المشوار ده ”
” لا مش معايا غير خمسة لو مش هتنفع خلاص ”
ظل السائق يتأمل هيئتها ، ثم أشار لها قائلاً :” طيب أطلعي أطلعي ”
و بالفعل ركبت سمرا السيارة ، و أنطلق بها السائق .
……………..
ظلت هي تنظر بساعتها و تنفخ بضيق هاتفه ” لو سمحت أستعجل شويه أنا كده هتأخر و وطي الأغاني دي شويه ”
” ما براحه يا مزمزيل شويه على نفسك ، و ماتخافيش هنوصل ”
نفخت هي بضيق ، بينما تابع السائق يردد الأغاني و هو يقود ، ألتفتت لتنظر من النافذة ، و سرعان ما انقبضت ملامحها و عقدت حاجبيها هاتفه :” مش ده الطريق لو سمحت ”
لم يعطيها السائق أي اهتمام و ظل يردد الأغاني ، بينما صاحت هي قائله :” بقولك مش ده الطريق ”
” لا ده طريق مختصر ”
” و أنا ماقولتش عاوزة طريق مختصر ، نزلني هنا ”
” مالك خايفة ليه كده يا حلوه ، بعدين أنا هفسحك شوية و نتبسط شويتين ”
كاد قلب سمرا أن يخرج من ضلوعها ، و خلعت حذائها لتنهال ضرباً على السائق من الخلف ، بينما ظلت السيارة تنحرف يميناً و يساراً و السائق يصيح هو من ضرباتها ، ثم ظل يضربها هو بمرفقه صائحاً :” أوعي بقي كده و أهدي هنعمل حادثه يخرب بيتك أوعى ”
خبط مرفق السائق بمعدة سمرا ، فآلمتها بشده و سقطت على المقعد الخلفي …………..!
…………………………………………………….