
ثلاثة أيام لا تحاكيها أو تنظر لها.. والحزن يتملكها وازداد فوق كاهلها الهموم.. كيف الخلاص من هذا النفق الذي أدخلتهم فيه ابنتها الحمقاء بفعلتها.. لو درى زوجها ” رحيم” ستكون كارثة ولا تضمن رد فعله.. والأكثر أن ناصر مختفي منذ أيام.. هل ينوي التنصل من مما فعل؟ الويل كل الويل إن فعل وتخلى عن مسؤليته!
أما جنة فلم يبقى لديها أي قوة بعد مواجهة والدتها القاسية والتي تتجنبتها وتنبذها گ جرثومة.. وتعلم أنها مثلها تكتوي بنيران الظنون السوداء وتطاردها هي الأخرى، أن يرضخ ناصر لوالدته ويتركها تواجه بمفردها مجتمعها بطفل منه ربما ينكره ويدخلون بدوامة أخرى! حقًا سيثبتون نسبه، لكن بعد ان تتلوث سمعتها وتصبح علكة الأفواه..!
اخذتها قدميها لشقتهما التي ترتفع لسبعة طوابق.. ورغم انها بحالة صحية لا تسمح لها بمجهود الصعود لكنها صعدت ودلفت بعد أن فتحت بابها الموصد! ظلت تنظر حولها بحزن.. وهي تتخيل كم حلمت بها بعد ان تكتمل.. وكيف انتقت لون الجدران وحددت غرفة نومها وأين سيكون مطبخها الصغير وهي تتفنن بصنع مالذ وطاب له كل يوم.. تصورت حين تأتي والدتها وأشقائها الصغار يزورنها وتتباهي هي بمسكنها الخاص.. الآن فقدت كل شيء.. فرحتها.. كرامتها.. أمانها.. حقوقها.. واحترامها بعين والدتها ووالدته هي الأخرى.. والقادم سيكون أسوأ حين يعلم والدها المسكين الذي ينتظر دوره بجمعيات صغيرة ليبتاع لها ما يستطيع!
هل سيعود ناصر؟
أم ستكون نسخة أخرى من صديقتها؟الفصل الرابع
الخذلان!
هو حصادها منه تلك اللحظة!
هو مقصلة نحرت عنق الأمل داخلها وعظمت الخوف گ مارد يكاد يبتلعها بجوفه المظلم..
تشعر بالوهن يسرق قوتها وقامتها ترتخي جالسة بإعياء على أرض شقتها العارية بعد ان اكتنف رأسها دوار شديد! تميل برأسها ترتاح على الجدار الرمادي بلونه الكئيب تنتحب بصمت..مقيدة الكلمات بحلقها الجاف وكأنها بصحراء انقطع عنها قطرت المطر.. زاهدة بكل شيء.. تفكر أين هو؟ متى سيعود؟ هل ينوي تركها؟ وماذا تفعل حينها؟! عشرات الأسئلة تتراقص على أوتار أعصابها المشدودة!
وبخضم تساؤلات صامتة في عقلها المجهد انتفضت بغتة على يدٍ تربت على كتفها الهزيل، فصرخت بفزع لكنها ابتلعت باقي صرختها وهي تسمع همهمته:
_ أنا ناصر ياجنة متخافيش!
لم تصدق انها تسمع صوته فهتفت بذهول لتتيقن:
_ ناصر؟!
أنحنى ليضمها إليه: أيوة ناصر.. وحشتيني ياجنة!
تصلبت بضع ثوان تستوعب حقيقة وجودها بين ذراعيه ثم تمالكت نفسها سريعا وتذكرت أخر ما قاله لها ثم غيابه ومرارة ما قاست، فدفعته بعيدا عنها بقسوة محاولة النهوض لتغادر، فمنعها مبررًا:
والله غصب غني.. عارف انك زعلانة بس كان لازم أبعد لحد ما اتصرف.. انا عاهدت نفسي مش هرجع غير وانا معايا الحل!
قاومت احتجازه لها بشراسة قدر قوتها وهي تهم بالنهوض بإصرار:
سبتني لأفكاري وخوفي وهمي وحزني اللي عيشتهم لوحدي ولا تعرف إيه حصلي وواجهت إيه وتقولي كان لازم ابعد.. خلاص ابعد وسيبني حتى لو هموت.. يارب اموت عشان ترتاحوا كلكم.. سيبني وابعد تاني زي ما كنت.. سيب القطة المغمضة اللي فتحت على إيدك وفي الأخر بتعايرها بضعفها.. سبني وامشي ياناصر.. سبني بقولك!
كلما ابتعدت اشتد بضمها إليه أكثر، تاركا لغضبها العنان لتنفثه بوجهه! مقدرًا ومدركًا أين أخذتها أفكارها السوداء، بعد ان نفذت قوتها وهي تقاومه أستكانت تبكي مستسلمة على صدره، فأسند جبهته على جبينها وغمغم بخفوت: أنا أسف.. عارف اللي انتي فيه، والظنون اللي دارت في دماغك ناحيتي ومقدرش الومك عليها، وسامحيني على أخر كلام قولته انا ماقصدتوش والله..انتي مراتي وحبيبتي ومستحيل ابصلك بصة وحشة أو اتخلى عنك ياجنة، وأنا خلاص اتصرفت في مبلغ كبير هعمل بيه اللي اقدر عليه في شقتنا وهروح لعمي وافاتحه في دخلتنا أخر الشهر!
ظلت تبكي مستسلمة لهدهدته لها منصتة لكلماته، فجذبها على صدره واستجداها: خلاص بقى بطلي عياط قولتلك هتصرف!
هتفت بوهن تشكو له كل ما ادخرته بصمت داخلها: خوفت ما ترجعش، خوفت تسيبني.. حسيت إني بموت..!
_ بعد الشر عليكي.. أموت قبلك!
ثم لثم وجهها المدفون بثنايا عنقه مستمعًا لهمسها الشاكي: أمك جت زارتني وعرفت باللي بنا وسمعت امي كلام زي الزفت وحلفت انك لو اخدتني مش هترضى عنك.. وامي مش طايقاني من وقتها ومقطعاني.. انا خايفة من اللي جاي ياناصر اما ابويا يعرف! أنا تعبانة أوي ومش قادرة اتحمل!
ربت على ظهرها وقبل رأسها المُطرق: كله هيتصلح أوعدك.. أهم حاجة نتلم في بيتنا.. ومسير زعلهم يروح وهيرضوا علينا تاني.. مش هنهون عليهم..!
ثم رفع وجهها إليه يطالعها بتفحص حاني: وشك أصفر أوي يا جنة، إنتي مابتاكليش؟
هزت رأسها بالنفي، فقبل جبينها وقال:
طب انا هنزل اجيب لقمة ناكلها سوا وعلبتين عصير وبعدها اوصلك البيت!
_ ماليش نفس.. خليني امشي احسن!
شاكسها: هتكسفي ناصر حبيبك يابت؟..ده انا هأكلك بإيدي.. وواصل بحنان: اطمن انك اكلتي حاجة وهنمشي على طول.. دقايق وجاي استنيني!
غادرها، ورغم قسواة ما تحياه، زحفت ابتسامة لشفتيها وهي تستعيد طعم حنانه عليها منذ لحظات وكأن بعودته واهتمامه بُذر الأمل بصحرائها مرة أخرى وانغرز بأرضها، وهاهي تتنعم بقربه وعشقه بعد غياب ، لقد عاد سندها بعد الله..سيكون كل شيء بخير.. ناصر لن يتركها..! هكذا ظلت تردد داخلها ولسانها يستغفر رجاءً بالصفح من الخالق لحين عودته!
مر أسبوع أخر وناصر يستميت بإنجاز بعض التشطيبات من سباكة ونجارة وتأسيس إضاءة حتى تصبح شقتهما صالحة فقط للعيش! وحان الوقت ليحدث العم ” رحيم” بأمر زفافه هو وجنة!
هل ستجري الأمور كما يريد ويوافق والدها وترضى والدته عن زيجته؟ أم مازالت معركته مستمرة؟