
كانت تلك الكلمه التي استطاعت فرح التفوه بها و التي كانت يتردد صداها بعقلها الذي كان كالمسعور يريد معرفه الإجابه علها تهدئ من نيران غضبه و لو قليلًا و لكن لم يصل إلي مسامعها سوي صوت بكاء جنة التي كانت شهقاتها تشق جوفها من شدة الألم و لم يستطع لسانها سوي التفوه بعبارات إعتذار واهيه لا تسمن و لا تغني من جوع
” أنا أسفه يا فرح سامحيني .”
لا تعرف كيف خرج صوتها بتلك القوة حين صرخت و هي تقول بقلب ممزق
” ردي عليا . عملتي في نفسك كدا ليه ؟”
إرتجفت جنة رعبًا من مظهر شقيقتها التي بدت و كأن الصدمه أصابتها بالجنون و قد أنشق قلبها لنصفين كونها السبب في حالتها تلك لذا حاولت التحرك من مكانها لتصل إليها فلم تستطع من شدة الألم فحاولت مد يدها لتمسك بيد شقيقتها التي كانت علي بعد خطوتين منها و لكن حدث ما لم تتوقعه إن أبتلعت فرح بفزع عن ملامسه يدها و كأنها شئ مقرف تتقزز منه مما جعل تنفسها يزداد بشدة و كأن قلبها قد فاض به الوجع فقرر الخروج من مكانه و إزداد إرتعاش فمها الذي خرجت الكلمات منه بصدمة ممزوجه بعتاب و ندم
” فرح . أرجوكي تسمعيني”
ناظرتها فرح بعينان إرتسم بها الخيبه و الغضب و القهر في آن واحد و قالت بمراره
” سمعاكي. سمعاكي يا مدام جنة !”
كانت تلك الكلمه مُرة كالعلقم في فمها حين تفوهت بها و لكن كان بداخلها شعاع أمل بسيط بأن تنفي شقيقتها ذلك العار الملصق بها و لكنها قابلتها بدموع الإقرار بذنبها العظيم مما جعلها تسقط جالسه فوق أقرب مقعد قابلها و هي تقول بضعف ممزوج بخيبه أمل
” هتقولي إيه يا جنه . عندك إيه تقوليه ؟ في إيه ممكن يمحي الجريمه إلي عملتيها في حق نفسك و حقي ؟ ليه يا جنة ؟ ليه رخصتي نفسك كدا ؟ ليه دانا ضيعت عمري كله عشانك ! ليه يا جنه ليه ؟؟”
كانت كلمات شقيقتها حادة كنصل سكين أخذ يمزق قلبها إربًا و هي لا تستطيع سوي البكاء فقط فقد تبخر كل شئ من عقلها في تلك اللحظه حين رأت شقيقتها منهارة بتلك الطريقه فقد إعتادت عليها قويه شامخه و قد كانت تراها الجدار الذي تتكئ عليه دائمًا و لكن الآن إنهار جدارها الحامي و كانت هي الفأس التي حطمته !
للحظه لم تدرك ما حدث و لكنها إرتعبت حين رأت «فرح» تهب من مكانها تقف أمامها و قد إرتسم الجنون بنظراتها و قست ملامحها و إمتدت يدها تمسك بكتفيها تهزها بعنف و هي تقول بلهجه قاسيه و نبرة قويه
” عملتي كدا ليه ؟ ردي عليا ”
و كأن لسانها فقد قدرته علي الحديث فلم تستطع سوي أن تبكي بعنف و هي تهز رأسها يمينًا و يسارًا و قلبها يرتجف رعبًا و ألمًا كُلما هزتها شقيقتها التي قالت بصراخ
” ردي عليا .”
أتبعت جملتها بصفعه قويه سقطت من يدها علي خد جنة التي برقت عيناها مما حدث و توقف جسدها عن الأهتزاز و تجمدت الدموع بمقلتيها من فرط الصدمه التي كانت أضعافها من نصيب فرح التي تراجعت خطوتان للخلف و هي تنظر إلي كفها تارة و خد جنة تارة آخري غير مصدقه ما فعلته و لكن تلك البقعة الحمراء علي وجنة شقيقتها جعلتها تُدرِك ما حدث لتجد نفسها تهرول للخارج دون أن يكون لها القدرة علي إيقاف قدميها و لم تشعر سوي و هي خارج بناء المشفي فتوقفت تحديدًا أمام الباب الرئيسي لتستعيد أنفاسها الهاربه و أخذ صدرها يعلو و يهبط فسقط جزعها العلوي إلي الأمام و أسندت يدها فوق ركبتيها و هي تلهث بقوة و عبراتها ترتطم بالأرض أمامها دون توقف .
مرت لحظات و هي علي هذه الحالة إلي أن إستطاعت أن تستقيم في وقفتها و أخذتها قدماها إلي الحديقه و ما أن خطت خطوتان حتي تسمرت في مكانها حين وجدت ذلك الجسد الضخم يقف أمامها بشموخ يعطيها ظهره و دخان سجائره يشكل سحابه هائله فوقه فقادها الفضول لتتقدم خطوتان إلي حيث يقف و وجدت نفسها تقول بصوت مبحوح
” أنت بتعمل إيه هنا ؟”
لا يعلم كيف و لكنه علم بهوية ذلك الصوت الذي كان منذ بضعة أيام مليئ بالتحدي و العنفوان و الآن أصابه الضعف و الخيبه حتي خرج مبحوحًا جريحًا بهذا الشكل
” نفس السبب اللي مخليكِ هنا ”
هكذا أجابها بإختصار دون أن يستدير لينظر إليها فقد توقع ملامحها من المؤكد أنها تحمل ألم نبرتها .
تقدمت خطوتان حتي وقفت بجانبه و قد بدأت تعي ما يحدث حولها فأخذت تنظر أمامها بضياع قبل أن تسمعه يقول بنبرة جامدة
” كان عندك حق !”
صمتت لبرهه قبل أن تقول بنبرة خافته
” هو عامل إيه دلوقتي ؟”
أخذ نفسًا طويلًا فشعرت بأنه يجاهد حتي يخرج الكلام من بين شفتيه حين قال بجمود
” أدعيله ”
لم تنظر إليه فقد كانت تشعر بأنها عاريه تقف علي رمال متحركه و لا تملك سوي الدعاء الذي لا يقدر علي ذلك القدر المظلم سواه لذا رددت بصوت خفيض و لكنه مسموع
” اللهم إني لا أسألك رد القضاء و لكني أسألك اللطف فيه ”
وجد نفسه لا إراديًا يردد ذلك الدعاء و لكن بداخله فقد كان لأول مرة بحياته يقف عاجزًا مُكبل بقيود القدر الذي وضع شقيقه الأصغر قاب قوسين أو أدني من مفارقة الحياة.
فوضعه خطر للغايه هكذا أخبرهم الطبيب و هو لم يستطع الإنتظار بالداخل فقط شعر بالإختناق و بالضعف الذي لا يليق به خاصةً و أنه الداعم الرئيسي لعائلته لذا ترك شقيقته و والدته و بجانبهم سليم أخاه الأصغر في الدخل و خرج إلي الهواء الطلق عله يستطيع التنفس و إخراج شحنات ألمه بلفائف سجائره التي تناثرت أسفل قدميه بإهمال فشكلت صورة من يري عددها يُجزِم بأن هذا الشخص حتمًا يُريد الإنتحار .
” معرفتش إلي حصل دا حصل إزاي ؟”
لا تعلم لما خرج هذا السؤال السخيف من فمها فما حدث لا يكن بالشئ الهام أمام عواقبه و لكنها أرادت قطع الصمت القائم حتي تهرب من الأحدايث التي تدور بعقلها و تقوده إلي الجنون.
” لا . بس هعرف ”
كانت إجابة قاطعه كلهجته و لكن ما بعدها كان يحمل الوعيد في طياته أو هكذا شعرت حتي جاءها صوته صلبًا تشوبه بعض الخشونه حين قال
” أختك عامله إيه ؟”
كانت تود لو تصرخ بالإجابه التي كانت تمزق قلبها إلي أشلاء و لكنها كتمت بكائها الذي كان يهدد بالإنفجار و أبتلعت غصه مريرة قبل أن تقول بنبرة ثابته
” الحمد لله”
الحمد لله هي الكلمه المُعبِرة دائمًا عن الحال مهما بلغ سوءه و لكن دائمًا هناك يقينً راسِخًا بقلب المؤمن يُخبره بأن ذلك القدر الذي أختاره الله له ليس إلا خيرًا مهما حوا من الصعاب و الأزمات لذا أغمضت عيناها رددت بقلبها
” الحمد لله الذي لا يُحمد علي مكروه سواه ”
ما أن أنهت جملتها حتي أخترق مسماعها صوت صراخ و عويل قادم من الداخل إنتفض علي إثره هو الآخر و ردد بقلب مرتعب
” حلا !”
بلمح البصر وجدته يهرول للداخل و دونًا عنها أخذتها قدماها خلفه حتي تفاجئت من هذا المشهد المرعب حين وجدت فتاه بعمر أختها أو ربما أصغر قليلًا و هي تنوح و تنتحب و بجانبها رجل آخر يحتضنها و قد كان هو الآخر في حالة من الإنهيار الصامت الذي تجلي في عيناه التي تناظرها بصدمه و ضياع . حينها توقفت غير قادرة علي التقدم خطوة واحده فقد وقعت الصدمه عليها هي الآخري فجمدتها بمكانها خاصةً عندما وجدته يسقط علي الكرسي خلفه بضعف غريب يتنافي تمامًا مع حدة ملامحه و شموخه السابق الذي كان يحيط به و تبددت تلك الهالة من الهيبه التي تحيط به و تحولت إلي ضعف كبير فهي عندما شاهدته أول مرة كان تعلم أن عمره أربعون عامًا و قد بدا أصغر بكثير أما مظهره الآن يوحي بأنه قد تجاوز السبعين من عمره …
فألم الفقد قادر علي سحق الإنسان بين طياته و إنهاك الروح للحد الذي يجعلها كثوب مُهلهل تبعثرت خيوطه
حتي أن كل فلسفه العالم لا تستطع إصلاحه و لا مواسات إنسان عما فقد.
فلا بكاء ينفع و لا صراخ يشفع و الصمت مُميت و البوح ليس بكلمات تُقال بل يشبه تفتت الجبال..
( أعاذانا الله و إياكم من فقد عزيز )
نورهان العشري ✍️
🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁
شعرت بنغزة كبيرة في صدرها و الذي أخذها جرًا إلي غرفة شقيقتها بقلبً لهيف ففتحت الباب بقوة مندفعه إلي السرير الذي تستلقي عليه جنة التي ما أن شاهدتها حتي اإتمعت عيناها الباكيه و همت بالحديث لتتفاجئ بفرح تحتضنها بقوة لم تتوقعها و يدها تشدد من عناقها بكل ما أوتيت من حب و ضعف و خوف فهيوصغيرتها التي ربتها و أعتنت بها طوال حياتها و إن كان خطأها جسيمًا بل مروعًا فهي لا تستطيع سوي أن تحمد ربها علي نجاتها ..
أخذت جنة هي الآخري تشدد من عناق فرح و هي تبكي بقوة و داخلها ينتفض تزامنًا مع شهقاتها التي تردد صداها في أنحاء الغرفه التي شهدت علي شتي انواع المشاعر في تلك اللحظه فقد كان الندم و الإعتذار من جانب جنه و الخوف و الغضب من جانب فرح و قد كان الألم شعور مشترك بينهما لذا طال العناق لدقائق حتي أفرغت الفتاتان ما بجوفهما من مشاعر و كانت أول المنسحبين فرح التي كانت تحني رأسها بتعب فامتدت يد جنة تحت ذقنها ترفع رأسها إليها و هي تقول بنبرة بها الكثير من الاعتذار و الندم
” والنبي ما توطي راسك كدا أبدًا . انا معملتش حاجه في الحرام . حازم جوزي ”
لوهله لمع بريق الأمل بعيناها ما أن سمعت حديث شقيقتها فخرجت الكلمات مرتجفه من بين شفتيها و هي تقول بترقب
” جوزك ؟”
أهتزت نظرات جنه للحظه قبل أن تقول بتوتر
” آه جوزي .. إحنا أتجوزنا عرفي .. بس الورقتين معايا في البيت و هو بيحبني اوي وعمره ما هيتخلي عني . انا واثقه من دا والله هو طلب مني نعمل كدا عشان نضغط عليكي و علي أهله عشان توافقوا علي جوازنا . و لو مش مصدقاني هخليه يقولك كدا بنفسه .”
قالت جملتها الأخيرة بلهفه بعدما لمحت تلك النظرة المنكسرة بعين شقيقتها و إختفاء تلك اللمعه التي ظهرت عندما ذكرت زواجها منه .
كانت كالغريق الذي وجد زورق النجاة بعد إنقلاب سفينته في بحر هائج و الذي إتضح بعد ذلك بأنه زورق مثقوب قابل للغرق في أي لحظه هذا كان حالها عندما سمعت جملتها عن ذلك الزواج العرفي الذي لن يعترف به أحد خاصةً بعد وفاة حازم فانطفئ شعاع الامل من عيناها و شعرت بالشفقه علي حالها ما أن تعلم بما حدث و نظرًا لعذاب شقيقتها الظاهر جليًا علي محياها و إصابتها العضويه و النفسيه آثرت تأجيل الحديث لحين أن تستعيد صحتها و كذلك لتستطيع التفكير هي بهدوء في تلك الكارثه التي بدت و كأنها حلقة مغلقه لا مخرج منها ابدًا ..
” نامي دلوقتي و لما تصحي نبقي نتكلم .”
هكذا خرج صوتها جافًا به بحه بكاء مكتوم لم يعد وقته الآن فحاولت جنة الحديث لتوقفها كلماتها الصارمه حين قالت
” قولتلك نامي دلوقتي و بعدين نبقي نتكلم ..”
أبتلعت حروفها و هي تنظر إلي شقيقتها التي كان ثوب القسوة جديد كليًا عليها و قد آلمها ذلك كثيرًا و لكنها داخليًا تعترف بأنها تستحق أسوء من ذلك و بأن الموت هو الجزاء الذي تستحقه علي جُرم أقحمها به غبائها و إنسياقها خلف قلبها ..
كانت ليله طويله علي الجميع لم ينم بها أحد سوي جنة التي أعطاها الطبيب مهدئًا حتي يحميها من ذلك الألم الكبير في ذراعها المكسور و تلك الكدمات التي إنتشرت في أماكن متفرقة في جسدها و لكنه لم يستطع حمايه روحها المعذبه و لا قلبها المكدوم و قد تمكنت منها الكوابيس التي أيقظتها مرات كثيرة و هي تنتفض صارخه لتتلقفها يد فرح التي كان عذابها كبيرًا للحد الذي منعها من النوم و من البكاء و من أي شئ قد يريحها فقط أنفاس قويه تقذفها من جوف وجعها و كأنها جمرات حارقه حتي عندما كانت تهرول لإحتضان شقيقتها التي كانت ترتجف لم تستطع التفوه بكلمه واحده فقط تعانقها و تمسد بيدها فوق خصلات شعرها إلي أن تهدأ و تعود للنوم .
أخيرًا بزغ نور الصباح ليُعلِن عن بِدأ يوم جديد مُحملًا بأوجاع الأمس التي سيكون الشفاء منها أمرًا مستحيلًا و قد تترك ندوب ستستمر معهم طوال حياتهم .
وضعت فرح يدها علي عيناها التي لم تستطع التأقلم بعد علي نور الصباح الذي دخل من النافذة فنهضت بتعب من مقعدها و دلفت إلي المرحاض تغسل وجهها و خرجت لتجد الممرضه و الطبيب الذي كان يعاين شقيقتها و أمر الممرضه بإعطاءها أدويتها فبادرته فرح بالحديث بصوت مبحوح
” حالتها عامله إيه يا دكتور ؟”
الطبيب بعمليه
” زي ما قولتلك حالتها مش خطر و مع الانتظام علي الأدويه أن شاء الله هتبقي أحسن بس طبعًا مش هينفع تروح قبل ما نطمن عليها . ”
فرح بهدوء
” يعني قدامنا قد إيه كدا ؟”
لاح بعض التوتر علي ملامح وجهه و لكنه سرعان ما أختفي و قال بعمليه
” ممكن أسبوع مش اكتر أن شاء الله”
ثم تابع بإشفاق لامسته من بين كلماته
” أنتي إلي واضح عليكي الإرهاق أوي ودا غلط ”
لاحت إبتسامه ساخرة علي شفتيها قبل أن تقول بصوت لا حياة به
” مش هتفرق كتير يا دكتور. المهم هي تقوم بالسلامه. ”
الطبيب بإشفاق
” هكتبلك علي شويه مقويات عشان مينفعش أنتي كمان تقعي . أنا عرفت منها أنك عيلتها الوحيدة . و لازم تكوني جمبها خصوصًا في الوقت دا ..”
لم تجادله فرح التي كانت في تلك اللحظه نفذت كل قواها فأخذت منه الورقه بصمت و ما أن أوشك علي المغادرة حتي قالت بلهفه
” دكتور معلش ممكن تخلي حد من الممرضات يفضل جمبها ساعه بس أروح البيت أجيب هدوم ليا وليها و شويه حاجات كدا . زي ما حضرتك شفت انا جيت جري و معناش أي حاجه هنا ..”
الطبيب بتفهم
” مفيش مشكله . أنا هعين ممرضه مخصوص تفضل جمبها لحد ما تروحي و ترجعي ”
كان إهتمامًا مبالغ فيه و لكنها في وضع لا يسمح لها بالسؤال و لا حتي بالتفكير لذا هزت رأسها و تمتمت بعض عبارات الشكر قبل أن تشرع في تجهيز نفسها للمغادرة ..
*****************