روايات

رواية بقلم منى الكاشوري كاملة

تأخر الوقت وهو لم يأتي، فتراخت جفناها وأُسدلت لتسقط بغفوة على مقعدها دون إدراك لما حولها.. ولم. يمضي كثيرًا من الوقت إلا وأتى ناصر، ففوجيء بنومتها الغير مريحة وعنقها يتدلى بميل بسيط، ووجها شاحب..وعيناها تحوطها دائرة من هالات سوداء.. فاقترب منها محاولًا تعديل وضعها، فانتفضت للمسته وقالت بنعاس وجفنيها مازالا مطبقان : أنت جيت يا ناصر؟!
ابتسم وهو يتأملها: لأ، لسه مجيتش!
فردت بوعي غائب: طب اما تيجي صحيني احطلك عشا..!
ضحك بخفوت ثم تلاشت رويدا ابتسامته ليحتل وجهه نظرة غائمة حزينة وهو يطالعها بشفقة لا تخلو من شوق لها وهو يسترجع كيف مرت بينهما الشهور الماضية.. تقريبا لم يجالسها يومًا كامل، أو يخرج معها نزهة، أو يتثامر أو يُسمعها كلماتِ غزله الحانية كما كان يفعل.. حتى لقائهما گزوجين، صار له گروتين بارد، خالي من مشاعره الدافئة.. أهملها تمامًا..وتذكر كيف غفى أمامها وهي تقص له شكواها من وحدتها.. لكن رغمًا عنه غرق في سبات عميق، ولم يجد الفرصة ليسألها ماذا كانت تقول..أما هي، فلم تعيد عليه شكوتها مرة أخرى زاهدة في نيل اهتمامه، مكتفية بصمتٍ عاتب يسكن مقلتيها الذي ذهب صفائها، فعمله يبدأ من الصباح الباكر ويأتي ساعتين بمنتصف النهار يتناول غداءه معها ثم يمدد جسده ويغفو لينال بعضًا من الراحة .. ويذهب عُقبها لعملٍ أخر.. حتى ينتهي من التزاماته ومصاريف ولادتها.. ماذا يفعل وأصبح مسؤل عن عائلة ولديه أعباء كثيرة!

سمعها تَئن وقسماتها تتجعد بألم! يبدو أن شيئًا ما يؤلمها.. نهض وحملها برفق، ثم أرقدها على فراشها.. ولثم جبينها.. وذهب ليغتسل ويصلي، وأعد لهما طبقين من الفاكهة.. هو يعلم أنها لا تأكل في الليل سواها.!

_ جنة! قومي ياحبيبتي!
تململت على صوته ومازالت تحت سطوة النوم دون أن تستجيب، فنكز وجنتها برقة لتفيق، رمشت عيناها لتستوعب حضوره هاتفة: إنت جيت إمتى؟
ابتسم بمشاكسة: منا بقولك لسه ماجيتش”
ابتسمت لدعابته ولم تنتبه لصحنين. الفاكهة وهي تنهض سريعًا تترنح: هقوم اعملك عشا حالا..!
جذبها لتجلس مرة أخرى وجلس أمامها : ماتعمليش حاجة انا عملت الطبقين دول ليا انا وانتي، يلا ناكل سوا..!

عند جملته استعادت وعيها كاملًا وهي تنقل بصرها بينه وبين الصحنين، محدقة عيناها بذهول لاهتمامه المفاجيء وشفتها منفرجة ببلاهة مضحكة وشهية! فضحك لهيئتها ثم لثم شفتيها برقة وتمتم: أعدلي وشك يابت، بصتك محسساني اني كنت مسافر ورجعت.. مالك مذبهلة كده ليه ياجنتي”

جنتي؟!
أعادت كلمته داخلها غير مصدقة، وغشت مقلتيها العبرات تتآوه فرحا وشوقًا للفظ دلالها الذي امتنع عنه طوال الفترة الماضية.. حتى ظنت انه لن يدللها ثانيًا..! وأنها سقطت من ذاكرته وسط أعبائه.. لكن هاهو يعود لنفس عهده القديم.. يغمرها بحنانه واهتمامه.. فنظرت لقطع الفاكهة التي أعدها لها.. وقالت:

_ ممكن اطلب منك حاجة!
كان صامتًا يراقب دهشتها ثم سحابة دموعها بضيق، وقد فطن كيف أهملها، فشعر بالنقمة على ذاته، وما ان تفوهت برجائها حتى أومأ لها برأسه دون حديث.. فقالت:

_ أكلني بإيدك يا ناصر!
رمقها متعجبًا فواصلت: عايزة احس انك رجعتلي تاني.. عايزة. ادوق طعم حنانك اللي وحشني لحد ما ارتوي.. انت صحيح ماكنتش مسافر.. بس ماكنتش معايا.. أنت بعدت أوي يا ناصر.. بعدت لدرجة اني عايزة اصدق إنك فعلا معايا دلوقت..!

تمزقت أوتار قلبه لعذابها الصامت وهو غارق بدوامته غير واعي لحالها، فتلقفها بين ذراعيه محيطًا جسدها بقوة تآوهت لها ألمًا.. وقد تفاقم تأنيب ضميره أكثر! كيف نسى ان يرعاها وسط أشغاله.. وعمله الذي لا تنتهي، معتقدًا انه يفعل الصواب لأجلها ويلبي حاجتها وهذا يكفي.. لكن كان خاطيء.. المرأة لا تكتفي من الدلال.. لا تشبع من الحنان.. لا ترتوي إلا بالحب..هي زهرة تذبُل إن طال عطشُها.. وزهرته جفت أوراقها دون أن يدري!
ترك لعبراته العنان مخبئًا وجهه جانب عنقها.. أما هي فغدت تلك اللحظة گأنها طفلة لا تُحسن التعبير بالكلمات، فاختزلت كل مشاعرها وشكواها له .. بعناق دافيء..!

انت في الصفحة 13 من 18 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
8

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل