
جاء اليوم التالي سريعًا وعند الظهيرة زفرت نجمة في غيظ اثناء ارتداءها رداء الصلاة الفضفاض الخاص بوالدتها التي تحوم حولها منذ الصباح تريد فهم التحول الطارئ في تصرفاتها وسبب امتناعها عن الذهاب للجامعة:
-يا نهار اسود وكمان بتلبسي اسدالي اللي هرياني تأليس عليه!
نجمة لو في حد بيضايقك في الكلية قوليلي وأنا هتصل بابن خالتك حالًا يجي معاكي ويحميكي.
-ماما ابن خالتي مهندس مش بودي جارد وبعدين يحميني ايه وهو اصلا هربان من الجيش!
-بنت إيه هربان من الجيش دي!
اسمها جاله إعفا من الجيش.
-قصدك جاله واسطه يا ماما.
أخبرتها نجمة بانزعاج وتهكم فوالدتها لا تتوقف عن الحديث عنه لأنها تتمنى أن توافق على الزواج منه بأي طريقة منذ سنوات، اتجهت نحو باب المنزل متسائلة:
-عايزة حاجه غير الزيت والملح؟
مش هفضل كل شويه نازله اجيب حاجات.
-لا.
اجابتها والدتها بأنف مرفوع واتجهت للمطبخ متجاهلة إياها، هزت نجمة رأسها وذهبت للمتجر وبعد شراءها ما تحتاجه وقفت أمام الرجل الذي اتسعت عيناه ما أن رءاها وتجاهل المال في يدها قائلًا في نبرة متوترة:
-انسة نجمة كويس انك نزلتي، انهارده الصبح في واحد جه سأل عنك !
وضعت يدها فوق صدرها بتعجب متسائلة:
-واحد سال عني أنا؟
ومقالش هو مين؟
-لا، بس والله أعلم كده شكله مخبر.
شحب وجه نجمة وتسمرت في وضعها للحظات قبل أن تخبره في لهجة محرجة دفاعية يشوبها الغضب على شخص بعينيه:
-مخبر وانا هيسأل عني مخبر ليه يا عم محمد!
-والله يا بنتي انا قولت اللي حسيته.
-ماشي يا عم محمد على العموم كتر خيرك، بس لو ممكن طلب بلاش لو شوفت بابا تقوله حاجه من دي انت عارف بابا بيتوتر بسرعه.
قالت نجمة من بين اسنانها وهي توشك على البكاء رغم قناع الصلابة الذي ترتديه أمام الرجل المسن فأجابها الرجل سريعًا:
-من عيني يا بنتي، ربنا يباركلك ويبعد عنك ولاد الحرام.
اومأت رأسها في حركة ضعيفة شاكرة ثم اتجهت في خطوات سريعة غاضبة نحو المنزل ولديها إحساس يخبرها بإن ما حدث هو بفعل سليم المبجل الذي يرفض تركها في سلام وغروره يأبى رفضها..
دلفت المنزل ثم وضعت الاغراض فوق الطاولة مستأذنه والدتها بالدخول لغرفتها والنوم فتمتمت والدتها بموافقتها ولكنها تذمرت في غيظ:
-ما انتي بتنامي كل يوم وش الفجر وانتي سهرانه على المحروق التلفون، لازم تبقي مرهقة كده.
حركت نجمة رأسها بعشوائية واتجهت للداخل ممسكه هاتفها عازمة على محادثته فهي لن تتركه يشوه سمعتها، انتفضت بغضب تنتظر رده وبمجرد أن فتح الخط حتى انفجرت الكلمات من بين شفتاها كقنابل ضارية:
-انت ازاي تخلي مخبر يسأل عني!
أنت عايز تشوه صورتي في الشارع ولا انت مجنون ولا إيه بالظبط؟!
سمعت همهمته الباردة وهو يسألها متعمدًا حرق أعصابها:
-هاا خلصتي ولا لسه ؟
اتسعت عيناها ذهولًا من هدوءه ولم تستطع النطق رغم أن الحروف كانت تتصارع للخروج من بين شفتاها لإغراقه بوابل من الشتائم، استغل سليم صمتها وأكمل بنبرة منتصرة احرقت اعصابها بالغضب اكثر:
-كنت متأكد إنك هتكلميني على فكره!
لتزمجر فيه بحدة:
-ما أنت لو عندك احساس ومعملتش اللي عملته مكنتش هتصل لكن الباشا ماسبليش خيار تاني.
استطرد “سليم” في قلة حيلة مصطنعة ونبرة درامية:
-اعملك إيه مش أنتي اللي بتختاري الطريقة الصعبة، فيها إيه لو كنتي رديتي عليا بكل هدوء من غير الحوارات دي كلها؟
صرخت نجمة في انفعال من بين أسنانها:
-انا يا سيدي مش عايزة أرد ولا أكلمك!
سمعت تأتأته المستفزة تأتيها عبر الهاتف وهو يتابع بصوته الرجولي الأجش:
-تؤ تؤ، مش كل ما الجنونه تهب تقوليلي مش عايزه اكلمك مش لعب عيال هو.
اصطنعت نجمة الهدوء ومن ثم راحت تخبره:
-طب اهوه بكل هدوء وعقل هادي بقولك أنا مش عايزه أعرفك وبعد اذنك اخرج من حياتي.
-مش قبل ما اعرف ليه؟
ولا انتي عندك إنفصام، لأني متأكد ان جواكي مشاعر نحيتي!
جزت نجمة على أسنانها بكل الغيظ الذي يحمله العالم معترفة:
-ماشي جوايا يا سليم بس أنا مش عايزة المشاعر، هاه ايه رأيك في الصيغة دي؟!
تنهيدة ارتياح كادت تخرج من بين شفتا سليم، واخيرًا مع انتهاء جملتها رست عاصفة التفكير داخله لتستقر بين جنبات قلبه مؤكدة أنها تحمل له مشاعر، فتجاهل كل ما قالت ليجيب بنفس البرود:
-رأيي إني عايز أقابلك، حددي معاد يناسبك لأني مش هسيبك إلا لما نحط النقط على الحروف.
-يانهار اسود، يانهار اسود، نقول طور يقول احلبوه!
-على فكره بقا انا صبري بدأ ينفد، فـ انا اللي هحدد يوم *** الساعة *** ولو ملاقتكيش قدامي في نفس الدقيقة،
قسما عظمًا لتلاقيني قدام باب بيتكوا وقد اعذر من انذر !
وما إن انهى جملته حتى أغلق الهاتف في وجهها، لتكتمل ابعاد الذبحة الصدرية التي كادت تُصيبها حرفيًا مرددة:
-قفل في وشي السكة!!
بينما على الطرف الآخر كانت ابتسامه سليم المشاكسة تملئ وجهه وهو يتخيل وملامحها تشتعل غضبًا وغيظًا، أعاد رأسه للخلف يعيد اعترافها الغير مباشر بأنها تكن مشاعر له، ورغمًا عنه عادت ذاكرته لثاني لقاء جمعهما.
***
كانا متواجدان في حفل عيد ميلاد المقام في منزل داليدا صديقة “نجمه” وزوجها رامي صديق “سليم” الذي كان أول الحاضرين، ما ان علم بحضور نجمة التي فاجأته بحصارها لأفكاره طوال الأسابيع الماضية مقررًا استغلال فرصته وألا يتردد كالمرة السابقة فتلك المرة لن يتركها حتى يجد طريقة للتواصل معها.
في بداية اليوم كانت نظرات نجمه تنم عن امرأة رافضة حانقة تجاهه، لكنه استطاع بمشاكساته وغزله المستمر تحويلها إلى نظرات أخرى لامعه متوهجة بمشاعر وجدت صداها بين ثنايا صدر سليم وأحسها كرجل..
انتظر بشدة إطفاء الشموع وانصراف كل شخص بصحنه إلى الطرف الذي يريد، مراقبًا نجمه تتجه نحو الشرفة حيث استكانت مغمضة عيناها بعيدًا عن الضوضاء مستمعة بالهواء الطلق، وخلال دقيقة تقريبًا كان سليم خلفها لتظهر ابتسامة صغيرة على شفتي نجمه، فقد كانت متيقنة أنه سيتبعها.
قطع سليم الصمت مرددًا بابتسامة رجولية تعلقت بها عيون نجمه بينما ينظر هو لخصلاتها المتطايرة حول وجهها المتورد:
-شكلك بتحبي الشتا!
سألته نجمه بنفس الابتسامة: