_
اتكأ يحيى بذراعه على بوابة المنتزه الحديديه و قال بعناد واضح : طيب اديني واقف هنا لغاية اما تفهميني احنا خلصنا ازاي..؟
لفت انتباههما مرور إحدى السيارات المزينه بالورود و التي تنبعث منها مزامير الفرح ، لتبتسم فاتن قائله بحسره : احنا خلصنا عشان انا مش متخيله انه هيجي يوم و اتزف كده و ابقى عروسه لك ، عشان خلاص معدش ينفع و انت عمرك ما هتسامحيني لانك قفل و معقد و خنيق و خلاص بقى سيبني في حالي ، سبني في حالي..
رددت كلماتها تلك مره تلو الأخرى ، لتدخل في نوبة بكاء مريره، مخفيه شهقاتها بباطن كفيها..
اقترب يحيى منها قائلا : متعيطيش عشان خاطري متعيطيش ..
لم تجد كلماته نفعا في منع استرسال شهقاتها ، ووقف عاجزا و آملا فالوقت ذاته أن تحدث معجزه ما لتوقف شلالات الفرحةوعها الآخذه في التعاظم مع كل كلمه ينطقها ليخفف عنها ، لذا آثر الصمت فلربما كان مفعوله أجدى بكثير من الكلام..
أزاحت فاتن كفيها عن وجهها و قالت بصوت مليء بالبكاء : انا مكنتش اعرف مكنتش اعرف ومش عايزه افتكر ، مش عايز افتكر..عايزه امحي الذكرى دي عايزه امحيها…
وضعت يديها على صدرها ، في محاولة منها لاسكات شهقاتها و قالت : كان نفسي يكون هو ، ينفع انت تكون هو ولو لثوان ، انا بس مش عايزه افضل فاكره الذكرى ديه
تمعن يحيى فيها للحظات ، ثم قال بصدق : انا مش فاهم حاجه ، بس هاكون هو لو ده يريحك ..
ثم حاول أن يضفي مرحا على اجابته ليخرجها من الضيق الذي تصارعه : بس بشرط أعرف هو مين الاول و ليه عايزاني اكون بداله…
” فاااااتن …..! ”
_
صاح يحيى مستنكرا حين ركضت فاتن باتجاهه و احتضنته مغلفة عنقه ب ذارعيها و قالت بنحيب يائس : بابا كان نفسي يكون بابا معايا ، كان نفسي هو اللي يضمني ، كان نفسي احس و لو مره واحده بالامان …
ثم انفجرت ثانيه في نوبة بكاء هستيريه ..
ليربت يحيى على رأسها الجاثم على صدره ،مرتجفا في داخله من المرحله الجديده التي وطآ فيها نتيجه لهذا الاندفاع الذي حل بها دون سبب واضح ، و الأدهى أنه لم يستنكر تصرفها ، من الممكن أن يكون قد شعر بالصالفرحةه في البدايه و لكن صالفرحةته سرعان ما دَبُرت ليحل مكانها مشاعر أخرى ، و أحاسيس لطالما هجاها و ألجمها بوضعها في قمم و احكم اغلاقه بمفتاح الانشغال بأحلامه و تحقيق ذاته ، و لكن أتت فاتنته بكتلة جنونها لتعطيه مفتاحا سحريا ، لتذيقه حلاوة تلك الأحاسيس و لكنه يعلم جيدا انها حلوها زائل لا يدوم ..
لذا عاد إلى رشده و أحل يديها عن عنقه ، و أبعدها عنه برفق ، متفرسا في وجهها و هو يقول : واحد غيري كان فهمك غلط ، و يمكن استغل الضعف اللي انت فيه ، بس مش وقته الكلام ده ، دلوقت خلينا نروح و بكره اوعدك هنتكلم و بهدوء و تفهميني ايه اللي مدايقك للدرجادي
رفعت فاتن كفيها تتحس وجهها الذي تسللت إليه حمرة الخجل من تصرفها الجرىء قبل قليل ..
ليقول يحيى محاولا التخفيف من احراجها : شكلك كنتي ناويه يخادونا شيله بيله فالبوكس ..
ابتعلت فاتن ريقها و همست : اسفه انا مش عارفه عملت كده ازاي..
وضع يحيى سبابته على فهمه في اشاره منه لاسكاتها و قال : خلاص نتكلم بكره و يلا اتفضلي هنروح
أومأت فاتن ، و خطت مع يحيى إلى خارج المنتزه ليقتادها و يستقلا اول سيارة اجرت اتيحت لهما في تلك الساعة المتأخره من الليل …
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
_
استفاق لؤي من نومه على صوت رنين هاتفه ، نظر إلى الشاشه بأعين نصف مفتوحه ، محاولا معرفة هوية المتصل ، تمتم عند رؤيته رقم انجي الشريف : الوليه دي عايزه ايه دلوقت بس..
هم بالنهوض واستقبال المكالمه في الخارج حتى لا يوقظ يحيى ، و لكنه عدل عن ذلك عنالفرحةا لاحظ سرير أخيه الفارغ..
أجاب بتثاؤب : الو …
لترد انجي بدلال : ايه صحيتك ..؟
لؤي : يعني بس مش مهم ..
ضحكت انجي برقه و قالت : يبقى سوري اوي انا افتكرت من الناس اللي بتسهر و بتحب الشقاوه..
لؤي مستدركا : لا لا ده انا بحب السهر و الليل جدا ، بس الليله كانت استثناء ، ها خير كنتي عايزاني فايه انا تحت امرك…
انجي : اممممم ما انت لازم تكون مصحصح معايا ها
لؤي : اهو مصحصح ميه ميه
انجي : طيب ، باختصار كده انا شايف فيك خامة ممثل كويس جدا ، ووشك ما شاء الله فوتوجينك ، فايه رأيك لو تمثل معانا دور صغير فالمسلسل اللي احنا بنشتغل فيه
_
أزاح لؤي الغطاء عنه و هب واقفا من شدة الفرحه : حضرتك بتتكلمي جد ؟
انجي : طبعا ، بس المخرج الاول عايز يعملك اختبار و لو نجحت هتكون معانا في المسلسل باذن الله
لؤي بلهفه : و انا تحت امرك ، لو تحبي نعمل الاختبار دلوقت معنديش مانع
ضحكت انجي : لالا .. شوف انا بكره هاكلمك و ابلغك المعاد و العنوان ، بس انت استعد ها
لؤي مستفهما : يعني احفظ حاجه و امثلها ادام المخرج مش كده
انجي : ميضرش خليك مستعد …
لؤي : انا متشكر جدا انا مش عارف اشكرك ازاي على الفرصه ديه
انجي : متشكرنيش دلوقت ، استنى اما تتقبل الاول
و انهت انجي المحادثه مجدده وعدها له بالاتصال غدا و اخباره بالتفاصيل .
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
_
تقلبت ديما في فراشها، محتضنة وسادتها باحكام شديد حول معدتها ، لعلها بذلك تُخمد أنين الجوع الصادر منها ، و وبخت نفسها لرفضها تناول السندويتشات مع ليلى قبل قليل ، و ذلك لحرصها على الحفاظ على الحميه الغذائيه التي اتبعتها منذ وصولها إلى مصر ، و مما زاد الامر سوءا امتناعها ايضا عن تناول وجبة كامله وقت الغداء ، حين كان لؤي متواجدا معها في المشفي ، حينها تناولت بضعا من اللقيمات الصغيره الفرحةا من تكراره للسخريه منها كما فعل على مائدة الافطار في الصباح.
و لكن نداء الجوع انتصر في النهايه ، لتنهض من فراشها ، متوجهة على أطراف أصابعها إلى المطبخ ، كان الظلام يخيم على شقة خالتها ، تحسست ببطء طريقها حرصا منها على عالفرحة ايقاظ اهل البيت ، وصلت إلى المطبخ و أشعلت النور ، فتحت الثلاجه و اخرجت قطعتين من الجبن يكفيان لصنع سندويشا يسد رمقها ..
بحثت عن ارغفة الخبز ، ووجدتها ملقاه على المائده الصغيره في زاوية المطبخ ، التقطت أحد الأرغفه ، ثم احضرت سكينا لتقسمه إلى نصفين ..
أمسكت قطعة الخبز التي قسمتها قبل قليل و تمتمت قبل أن تحشوها بالجبن :” اهو انتي هتبوظيلي الدايت ..بس اعمل ايه جعااانه ..جعااانه ..”
” اوبا .بتعملي ايه يا مفعوصه…”
تجمدت ديما في مكانها حين سماعها صوت لؤي الساخر من خلفها ، ابتلعت ريقها و استدارت قائله بمرح زائف : بملا التنك..
ابتسم لؤي الواقف بباب المطبخ قائلا : مين علمك الكلام البيئه ده
أجابته ديما ساخره : الموووجتمع
لؤي: الموووجتمع مره واحده ..
ديما : لا مرتين يا فكيك …
_
ثم أضافت : و خد جنب عايزه اذهب لاوضتي..
ضحك لؤي و قال : تذهبي لحجرتك مش اوضتك ..
رفعت ديما ابهامها في اشاره منها إلى صحة قوله و أضافت : انت ميه ميه ، يلا بقى خود جنب عشان اكمل مسيري
ابتسم لؤي و في محاولة لاغاظتها ، اسند كلتا يديه على طرفي الباب و قال : مش الاول تملي التنك..
أرادت ديما بردودها المرحه ان تُلهيه عن السبب الحقيقي لتواجدها في المطبخ الان ، و لكن يبدو أن محاولتها باءت بالفشل ..
قالت ديما محبطه : يووه بقى وسع شويه متبقاش غتيت
هز لؤي راسه و قال بجديه مصطنعه : مش هاتزحزح من مكاني ..
عضت ديما على شفتها السفلى قائله بغيظ : و ربنا لو فضلت واقف كده لاصوت و اصحي البيت كله..
رفع لؤي كتفيه و قال دون اكتراث : so what ..؟
قالت ديما بخبث : يعني مش خايف عمو يصحى و يهزءك
_
ارخى لؤي ذراعيه عن الباب و تقالفرحة منها قائلا : انا مش عيل عشان اخاف منه …
تفاجأت ديما بالالفرحة الذي اعتراه و قالت : انت زعلت ، انا بهزر
قال لؤي بعصبيه : هزارك بايخ و متصدقيش اللي يقولك كل التُخان الفرحةهم خفيف …
أطبقت ديما على أسنانها و قالت ثائرة لكرامتها : التخين يقدر يخس ، لكن الفاشل اللي زيك يعمل ايه..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
فاشل ..اخترقت تلك الكلمه أذني لؤي لتخرج تراكمات الالفرحة الكامن بداخله ، الفرحة أخطأ التوقيت و المكان و الشخص و دون أن يعي ما يفعله نزل بكفه على وجنة ديما صافعا إياها بقوه ..
شهقت ديما بنبرة مكلومه و تطلعت إليه بعينين دامعتين ، ليعتريه النالفرحة سريعا ..
قال لؤي بأنفاس لاهثه : انا اسف ، انا مش عارف عملت كده ليه ..
” بطلع عقدك على طفله يا جبان ”
تطلعت ديما مستنجده بالقاالفرحة الغاضب واستدار لؤي في نفس اللحظه ليواجهه .
_
الفصل الحادي عشر
¤ ما بين ظُلمة اليأس و بصيص الأمل ¤
———————————————–
وقف يحيى مصدوما من تصرف أخيه الأصغر ، و تمنى أن يقدر على التماس العذر له كما فعل في الفتره الأخيره ، و لكن أي عذر هذا الذي يجعل الفرحة فتاه صغيره كديما مبررا ، ربما حان الوقت لاتخاذ موقف حاسم تجاه التقلبات التي عصفت بأخيه مؤخرا و اعطائها رد الفعل المناسب ، فالرسول اوصى رفقا بالقوارير ، و اوصي بأن انصر اخاك ظالما او مظلوما، و أخاه هنا ظالما لمن تُرِكت أمانه في كنفهم ظنا من والديها بأنها ستلقى الرعايه و المعالمه بالحسنى.
استدار لؤي قائلا الفرحة : اه جتلك عالطبطاب بقى..
يحيى باستهجان : هو ايه االي جاني عالطبطاب !
لؤي : انك تظهر البطل اللي مفيش منك و لا فاخلاقك و يا عيني هتيجي و تنقذ السنيوره من الولد الفاشل التلفان
هز يحيى راسه بخيبه و قال : مش هتبطل الحقد اللي مالي قلبك ده ، انا بس نفسي افهم انا غلطت فحقك فايه و لا المسكينه دي كانت عملتلك ايه ، لو عندك مشكله يبقى تخليك راجل وواجهها و حلها مش تقرفنا و تطلع عقدك علينا ..
ضحك لؤي بسخريه و قال : شوف مين بيتكلم عن العقد ، ده انت اكبر معقد فالدنيا و لا فاكر عشان بنت الفنانه بصتلك تبقى خلاص كووول، لا يا نجم انزل من عالمسرح ، دي اكيد بتتسلى على الهبل اللي انت فيه
ظهرت ملامح الاستغراب على وجه يحيى ، ليقول لؤي : ايه فاكر محدش يعرف انك ماشي معاها ، شفت بقى لو انا حقود و معقد زيك كنت جريت على الوالد و قولتله بس انا احسن منك ، سامع احسن منك ميت مره ، و بكره هاثبت للكل اني احسن منك سامع …. سامع !
_
زفر يحيى بضيق شاعرا بالاختناق ، و الحسره على مَن كان يوما رفيق الدرب …. والظل الذي يلازمه …شريك المؤامرات و كاتم الاسرار …الاخ الصغير و الصديق الكبير ..كبير بحجم مساندته لاخيه في كل المواقف …كلها صفات دُثِرت منذ مده و الان فقط أُعلن عن استلام رُفاتِها ، ربما في قرارة نفسه أحس يحيى بتغيير كبير في علاقته بأخيه ، تغيير لم يستسيغه ولم يشأ أن يقر بوجوده ، لقد تمنى ان تكون سحابة صيف عابره ، و لكن اليوم بات من المستحيل عليه ان يضع راسه في الرمال و يتغاضى عن الحقيقه الماثله امامه…
همست ديما بالفرحة : دي خالتي صحيت !
استدار الاثنان ليواجها والدتهما خديجه التي هرولت مسرعه في اتجاه المطبخ بعد أن أغلقت باب غرفة النوم على زوجها بهدوء شديد
قالت باستنكار حين اصبحت وجها لوجه مع ابنيها : ايه الحكايه ده داحنا داخلين الفجر و لو ابوكو صحي و شافكو بتتخانقوا مش هيحصل طيب !
يحيى مدافعا : يعني عايزاني اشوفه بيالفرحةها و اقوله تسلم ايدك
خديجه باستغراب : يالفرحة مين !
و تنقلت بنظرها بين ديما و لؤي الذي ارتسمت على ملامحه سيمات المذنب ، لتسأل بصوت خفيض مُتْرَع بالالفرحة : هو الفرحةك ؟
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أن تحب للمره الأولى تعني عند البعض أن يدق قلبك بطريقة مختلفه حين ذكر اسم الحبيب وأن تعلن قسمات وجهك تهاليل الفرح عند رؤيته ، و استغلال كل فرصه للتندر بكل كبيره و صغيره حصلت في موقف ما جمع بينكما ، و لكن بالنسبه لديما هناك تبعات اخرى لذلك الحب ، و بالرغم من صغر سنها ، فلقد فَطِنت إليها ، فأن تحب في نظرها تعني أن تتحمل مسئولية مَن احببت ، و إن كان أخطأ لؤي في حقها الا انها لن تتخلى عنه في هذا الموقف العصيب ..
قالت ديما بثقه : طبعا لا يا خالتو ، ده احنا كنا بنهزر ، بس الظاهر يحيى ملوش فالهزار ..
_
اترك تعليقاً