
لم تستجب ، بل أدارت رأسها في الاتجاه المعاكس بوجهٍ مرتسم عليه الرعب ، والدموع تتساقط من عينيها المغمضتين لتبلل الوسادة ، هامسة بصوت مكسور يكاد يسمع : ابعد.. عني…
ذبذبات مؤلمة اجتاحت قلبه ، وهو يشعر أنها تحارب شبحًا فى غفوتها لا يستطيع رؤيته ، حاول تهدئتها بصبر ، ليهزها بليونه ، وصوته ما زال وديعًا ، ممتزجًا بقلق غريزي : حبيبتي .. دا كابوس .. اصحي معايا!!
تقلبت ابريل على الوسادة ، وصدى خوفها يخترق الهدوء : لا…
حاول باسم مجدداً بتصميم : قومي بقي يا ابريل
فتحت ابريل عينيها ببطء ، وراح بصرها يلتقط ملامحه بتشوش ، ثم جحظت بخوف غامض لم يجد له مبرر ، ودون وعى دفعت يديه عنها بقوة ، وهتفت متحشرج بالبكٍاء : اوعي عني يا واطي .. حرام عليك!!
تغلغل الذهول في قلبه ، وكلماتها قد اخترقت صدره بسكين من حيرة ، فسألها بارتباك ، وهو يحاول جمع أفكاره : أنا عملتلك إيه؟ انتي عيانة ولا إيه؟
لم تُجب ، بل نهضت بجذعها تراقبه بنظرات مليئة بالحذر ، ثم انقضت عليه فجأة ، وغرست أسنانها في كتفه بشراسة جعلته يطلق تأوهاً متألماً ، وحاول إبعادها عنه ، بينما قفزت هي من الفراش كأنها مطاردة بأشباحها ، وركضت حافية القدمين باتجاه باب الغرفة.
_رايحة فين المخبولة دي..!!
تمتم باسم بإنشداه متوجس يحاول استيعاب الموقف ، لكنه ما لبث أن لحق بها مسرعًا ، يناديها بلهفة : ابريل .. تعالي هنا…!
هرولت ابريل بغير وعي ، فعقلها لا يزال محاصراً في حلقة لا نهائية من الرعب ، التفتت إليه صارخة بصوت مرتجف : خليك مكانك .. ماتقربش مني ..
رآها باسم تتخبط حول نفسها ، كطفلة تائهة فى منتصف المنزل ، توقفت عيناها على خيوط ضوء الشمس المتسللة من النوافذ منذ ساعات ، بينما تناثرت الظلال الدافئة على الأرضية تحت قدميها الحافيتين ، كأنها تمدّ لها يدًا خفية تعيد إليها شيئًا من الإستيعاب.
_إبريل… دا أنا .. ما تخافيش
عاد باسم يهدهدها بصوت مطمئن ، لكنها لم تكفّ عن الهرب ، دارت حول طاولة السفرة تبحث عن ملجأ يقيها منه ، بينما قلبها يخفق كطائر مذعور في قفص ، ليهدر بنفاذ صبر متحشرج ببقايا دهشته : كفاية بقى جنان! هدي اعصابك..
أشارت ابريل إليه بيدها محذرة ، ورددت برفض : خليك بعيد .. خليك بعيد!!
هتف باسم بنبرة حائرة : في ايه؟ مش فاهم منك حاجة!!!
ارتفع صوتها بغضب مرير : مش فاهم إيه! انت كنت عاوز ي دلوقتي!
صُعق من كلماتها التي باغتته كصفعةٍ صامتة ، جمدته للحظات في ذهول تام ، ولكن سرعان ما أخذ الغضب يتصاعد في صدره كجمرةٍ ملتهبة بفعل هذا الاتهام الجارح ، فتقدم نحوها بخطوات واسعة ، عابراً الطاولة في عزم حتى قبض على ذراعيها بقوة ، ارتفع صراخها مشبعاً بخوفٍ واضح ، لكنه قطع تلك الهتافات بأمر صارم جمدها في مكانها : اخرسي وبطلي صريخ .. كده هتصحي العمارة كلها وهنبقى فضيحة .. أنا ما عملتلكيش حاجة!
حاولت ابريل الإفلات منه بتخبط ، فرفعت مزهرية كانت بجانبها وضربته على مرفقه ، ليحتد وجهه قليلاً من الألم ، وهتفت بغل باكي : يا كداب!
أخذ باسم نفساً عميقاً وهو يحاول تمالك نفسه ، وهو يدلك مكان ضربتها له ، ثم قال بسخط : فوقي واوعي للي بتعمليه في صباحك الزفت دا
لكنها لم تستمع ، اقتربت منه تضربه على كتفه وصدره بيديها ، وهي تصرخ بضراوة غاضبة وأنفاس متلاحقة : وكمان ليك عين تزعق فيا! بعد ما كنت بتعتدي عليا؟!
وضع باسم ذراعيه أمام صدره ، يحاول تفادي ضرباتها التي تنهمر عليه بلا توقف ، تعاقبه على خطأ لم يرتكبه ، ليزأر بصوت مشدود ، يحاول الدفاع عن نفسه أمام هجومها الشرس : إنتِ اجننتي ولا إيه؟ أنا إمتى قربتلك أساساً؟ وهعتدي عليكي إزاي وأنا نايم جمبك وصحيت على صريخك؟!
بلمح البصر اقتنص معصميها ، رافعاً ذراعيها إلى الهواء ، ليحبسها بينه وبين طاولة السفرة ، حيث تلاقت أعينهما ، ووجهه قريب منها ليحتوى فكّها بين أصابعه بحزم ، وهمس بصوت هادئ يحمل نبرة صارمة ، كأنه ينقش كلماته الجادة في أعماق عقلها المتشتت : اللي شوفتيه دا كان كابوس يا ابريل .. فاهمة؟!
_كابوس؟…
تلاشت اضطرابات أنفاسها رويدًا ، وكلماته قد أزاحت الغشاوة عن عقلها ، فخفضت عينيها تتفقد ذاتها ، ثم هزت رأسها ورفعت بصرها إليه بتردد ، هامسة بخفوت مشوب بخجل وندم : صح .. كان كابوس .. حتى بيجامتي سليمة..
أغمض باسم عينيه لحظة ، مستجمعًا أنفاسه المتناثرة بعد عراكٍ ، ثم فتحهما ببطء وأرخى قبضته عنها ، ليتمتم بصوت مُثقَل بضيقٍ ما زال عالقًا في صدره : هربتي دمي بجنانك يا شيخة!
عاد أدراجه نحو غرفة النوم ، تبعته بخطواتها الحافية إلى غرفة الملابس الزجاجية ، حيث عبّرت عن استيائها بنبرة متجهمة ، وقد عقدت ذراعيها على صدرها : كل ده بسببك .. انت اللي خليتني مرعوبة .. أعمل إيه يعني؟
أدار باسم وجهه نحوها ، وسألها بحيرة يتخللها التوجس ، بعد أن أخرج ثيابه من الخزانة : عملتلك إيه عشان تكوني مرعوبة مني للدرجة دي؟
تلاعبت ابريل بأطراف أكمامها بتوتر واضح ، تبحث عن إجابة في ثنايا عقلها ، ثم اعترفت بهدوء متقطع : مفيش .. بس .. كنت خايفة منك بالليل .. وافتكرتك هتقرب مني غصب عني .. عشان كده فضلت شاكة فيك..
تطلع باسم إليها بصرامة نابعة من قسوة لم تتوقعها ، ثم قال بجدية حادة كالسيف : لا اطمني .. مش انا اللي هقبل علي نفسي اني ابقي حيوان واجبر مراتي عليا غصب عنها .. خلي الكلمتين دول دايما في دماغك .. ويلا جهزي نفسك عشان نلحق نروح المطار في معادنا
أنهى باسم حديثه ببرود حاسم ، ثم انصرف نحو الحمام ليغتسل ، تاركًا وراءه صمتًا ثقيلاً ومشاعر متلاطمة تملأ الأجواء.
أدارت ابريل وجهها بحزن ، تدرك تمامًا كم كانت قاسية معه ، وللحظة كادت تتبعه لتعتذر عن كلماتها وأفعالها ، إذ استعاد عقلها صفاءه بمجرد أن خرجت من الغرفة ، ومع ذلك ، تابعت تمثيلها بإتقان ، فكل ما أبدته من مشاعر لم يكن مجرد تمثيل ، بل كان نابعًا من أعماق روحها المعذبة.
لا تنكر أنها تعمدت ان تضربه بقوة لترد جزءا مما يفعله معها ، ابتسمت ابتسامة تحوى دهاءً خبيثً ، عازمة على استعادة حقها منه بحيل أنثوية ، ومهارة عاشقة تعرف كيف تنتقم لقلبها المغرم بكل تفاصيل ذلك الذئب الوقح الذى تغلغل عشقه فى أوصالها
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
في منزل فهمي الهادي
دخلت سلمى إلى غرفة نوم ريهام ، التي ما زالت تجلس على السرير ، مرتديةً فستان السهرة الذي كان يلمع بألوانه الزاهية ، لكنه بدا الآن كأنما فقد بريقه ، ووجهها كان شاحبًا ، ووجنتيها ملطخة بالدموع ، ولم تعرف طعم النوم منذ الليلة الماضية ، حيث استمر عقلها في دوامة من التفكير المتواصل ، من جهة تخشى ما سيفعله أهلها بهار، ومن جهة أخرى داغر يلوح في مخيلتها كظل ثقيل ، فهي تدرك تماماً أن ما تعيشه الآن هو مجرد بداية لمحنة قد لا تنتهي على يديه ، شعور بالخوف رهيب يعتصر قلبها ، يختلط بقلق عميق حول مستقبلها الذي يتجه نحو المجهول ، ويجعلها تترقب ما سوف تعانيه من عذاب لا مفر منه.