منوعات

قيد ابدى

تحت الماء المنهمر

وقفت ريهام متشبثةً بألمها كالغريق الذي لم يعد يبحث عن قشة لينقذ نفسه ، بل يتماهى مع قاع البحر المظلم ، علّه يجد في ظلمته ملجأً من عواصف داخل قلبها المليء بالندم.

دفنت وجهها في كفّيها المبللتين ، مغلقةً عينيها بشدة وكأنها تحاول عبثًا أن تردع الدموع عن الانسلال لتنحدر دون إرادة ، مختلطة بالماء الساخن ، لكنه غير قادر على غسل روحها المثقلة بالخطايا.

تردد في رأسها صدى الذكريات بعنف لا يرحم ، يأخذها إلى تلك اللحظات التي تخلت فيها عن كل شيء لأجل رجلٍ لم يكن أكثر من وهم ، عادت إلى بداية حكايتها البغيضة التى تشهد على كل خطوة أخطأتها ، حين كانت تبحث عن مخرج من سجن حياتها مع أسعد ، الذي كان لا يشعر بوجودها ، يعيش في عالمه الخاص المليء بالأبحاث والأوراق ، بينما هي كظلٍ شاحبٍ يتبع خطواته بلا حياة ولا نور.

أحست بتلاشيها بكونها مجرد إضافة هامشية في حياة رجل مشغول ، فرّ من حبها منذ زمن دون أن يُعيرها أي اهتمام.

تعرفت على زوجة داغر خلال عرض أزياء حضرتْه بمفردها، ومنذ تلك اللحظة، نسجت بينهما صداقة ودودة ، كانت منفسًا لها بعيدًا عن قيود حياتها الزوجية ، حرصت على إخفاء حقيقة زواجها ، راغبةً في تذوق طعم الحرية ، ولو لوهلة عابرة.

ومع مرور الوقت ، لاحظت اهتمام داغر بها ، نظراته المعجبة التي كانت تلمع بمزيجٍ من الفضول والإعجاب ، تشعرها بأنها موجودة ، تُرى ، تلامَس ، بعكس حياتها الرمادية مع أسعد.

غزلت خيوط سرية من مشاعر لم تدرِ كيف نبتت في قلبها ، مشاعر ملطخة بالخطيئة ، غامضة كأطياف ليل بلا قمر.

وبدأت علاقتهما تتوطد شيئًا فشيئًا مع لقاءاتهما المختبئة بعيدًا عن الأنظار ، حيث حرص داغر على أن تظل اللقاءات في أماكن بعيدة ، لا يجرؤ فيها أحدٌ على الاقتراب منهما ، كان حذره ينبع من خوفه ، وليس من حبٍّ أو رغبةٍ حقيقية ، خوفه من أن ينكشف السر ، من تلك المرأة المريضة بالقلب التي كانت تحتل قلبه برغم كل شيء ، لكنها لم تفهم في البداية أن خوفه كان أكبر من مجرد عواقب اجتماعية ، كان قلقه ينبع من التزام قديم ، من إحساسه بالواجب تجاه زوجةٍ على شفا المو*ت.

وكلما اقتربت من حافة الهاوية في علاقتها ، كانت تتوهم أنها على وشك التحرر ، أنها ستكسر قيود حياتها مع أسعد وتُلقِي بنفسها في عالم من الحرية الخادعة.

طلبت الطلاق ، وأعطاها أسعد الوقت للتفكير ، لكنها كانت ترى في هذا الوقت فرصةً للتخلي عنه دون أن تُلقي نظرةً إلى الوراء.

تمسكت بمقبض الدش تعتصره بقبضة يائسة ، كمن يسعى لتمسك بآخر خيوط النجاة في عاصفة من القهر الذي يعتصر قلبها ، حيث في لحظة صدقٍ مشؤومة ، اعترفت لداغر بكل شيء ، فبادرها بصراحة لم تتوقعها ، معلنًا عدم نيته الزواج بها ، لكن كان الأوان قد فات؛ فقد كانت حاملاً بعمر ، ابنها الذي لم يكن في حسبانها ، جمعت بقايا شجاعتها لتصارحه بما تحمله من طفل ، ظنًا منها أن تلك الحقيقة قد تلين قلبه ، لكنها اصطدمت بنظرة باردة قاسية كالصخر ، زمَّ شفتيه ، وعيناه تتقدان بالاشمئزاز ، كأنها صدمته بأقسى ما يمكن أن يُقال ، قاطع حديثها بشراسة ، ووجه إليها الاتهام الذي كسر روحها بالكامل ، قال لها بحدة : ابني؟ إنتي بتهزري يا ريهام مش كدا؟ فاكرة انك هتضحكي عليا تاني؟ إنتي أساسًا خبتي عني إنك متجوزة … إيه اللي يخليني أصدق إن الطفل ده يكون ابني أصلًا؟ ده ميخصنيش … زيك بالظبط!

كانت كلماته كصفعة قاسية ، أيقظت فيها إدراكًا مُرًا للحقيقة ، كشف لها كم كانت غارقة في غفلة العشق ، تغلق عينيها عن كل شيء ، ترفض الاستماع إلى صوت عقلها الذي كان يحذرها من الاقتراب من عاشق يذوب في حب محبوبته حتى الثمالة ، وهذا ما جعله يدير ظهره لها بجمود ، متجاهلًا بقساوة قلب كيانًا كاملًا ينبض بحياة جديدة داخلها.

وفي خضم هذا القهر ، لم تجد أمامها ملاذًا سوى أسعد ، فأخبرته بحملها ، فاستقبلها بقبول غريب رغم اعتراضاته المتكررة في الماضي على هذه الفكرة ، وكثيرًا ما أمرها بتأجيلها.

شهقت بصوت عالٍ ، بينما تدفقت المياه فوق رأسها بقوة ، مجبرةً إياها على رفع وجهها نحو الأعلى ، حيث تلتقط أنفاسها بعنف.

في تلك اللحظة ، تبلورت أمامها معالم الحقيقة بشكلٍ صارخ ، كان قبول أسعد فخًا محبوكًا من داغر هو من دفعه لقبول الأمر ، ومن ثم تسجيل الطفل على الأوراق بإسمه ، وما إن وجد نفسه وحيدًا ، حتى انقض عليها ليستعيد طفله ، ويقصي أسعد من اللعبة بشكلٍ نهائي كأنه قطعة شطرنج تافهة فى مخططه.

لكن كيف حدث ذلك ، وهى حين زارت زوجته في المستشفى وجدتها على علمٍ بكل تفاصيل علاقتهما ، واجهتها بتهديد صريح ، محذرةً إياها بأنها ستفضح سرها إن لم تبتعد عن داغر نهائيًّا حتى لا تتسبب فى هدم سمعته.

حينذاك اتخذت قرارها بترك كل شيء ، وانتقلت مع أسعد إلى بلد آخر ، حيث أنجبت عمر هناك ، محاولةً بدء حياة جديدة ، لكن الماضي كان كظل لا يفارقها ثقيلًا ومُلحًّا ، حتى عاد ليُطاردها مجددًا يذكرها بخطيئتها البشعة ، فى يوم خطبة إبريل وباسم ، حينما رأت داغر مجددًا ، عيناها تنضحان بالألم الذي اختبأ طويلاً ، وسرٌ خفيٌ يسكن قلبها ، يلتف حوله كخيوط شبكة عنكبوتية لا يمكنها الفرار منها.

☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼

هبطت الطائرة بهما في “إيبيزا”، تلك الجنة المخبأة في أحضان جزر إسبانيا ، حيث تلتقي الأزرق العميق للبحر الأبيض المتوسط برمال الشواطئ الذهبية.

عندما نزلت إبريل من الطائرة ، احتواها الهواء الدافئ كعناق حميمي من الجزيرة ، وتراقصت حبات الرمل تحت خطواتها مرحبة بها.

تحركت إبريل بجانب باسم ، وعينيها تلمعان بإعجاب ، مندهشة بالطبيعة الساحرة ، بينما كانت رائحة البحر تداعب أنفاسها ، والأشجار الخضراء تتراقص مع نسيم البحر، والأمواج تتلاعب بمرح على الشاطئ ، كأنها ترسم لوحة فنية لا تنسى.

توجهوا إلى المنتجع الرائع ، الذي كان يطل على البحر ، وكأنما هو قطعة من الجنة ، كل وحدة سكنية تتزين بشرفات فسيحة، مفروشة بأناقة ، وكأنها تدعو كل نزيل للجلوس فيها والاستمتاع بجمال المنظر الخلاب بخصوصية تامة.

كان في استقبالهم زوجان يشرفان على إدارة المنتجع ، وبدا على ملامحهما بشاشة وألفة عميقتين.

ابتسم نيكولاس ، وهو رجل ذو قامة مهيبة ، وعينين تعكسان الدفء والترحاب ، وهتف بصوت عميق بلكنة أسبانية متقنة : مرحباً سيد باسم ، سعدنا كثيراً بتكرار زيارتك لمنتجعنا ، لقد اشتقنا لك

رد باسم بلطف ، يعلو صوته بذات اللكنة بمزيج من الثقة والمودة : شكراً لك عزيزي نيكولاس ، اقدم لكِ هذا “نيكولاوس ويلز” ، زوجته “ماغى” ، أقدم لكم زوجتي إبريل

وما إن نطق باسم اسمها ، توجهت نظراتهما إليها بإبتسامة مرحبة : أهلاً وسهلاً ، ومبارك زواجكما

قالتها ماغي بابتسامة عذبة وعينين تتألقان بوميض دافئ ، بينما تحدق إبريل بهما بسعادة ، مشدوهة ببشاشة ماغي المتألقة ، وبصعوبة إستطاعت فهم مايقال.

اقتربت ماغي من إبريل ، تنطق بلغتها الأم بنبرة يكسوها الإعجاب : تبدين رائعة الجمال حبيبتي

_عفواً ، إنها لا تتحدث الإسبانية سيدة ويلز

تدخل باسم بهدوء ، لكن ماغي بكل رقتها، لم تدع ذلك يحبطها ، فأكملت بالإنجليزية : لا بأس ، سررت بلقائك عزيزتي ، كما أنكِ جميلة للغاية

_شكراً لك ، يسعدني معرفتك أيضاً سيدة ماغي

ردت إبريل بتردد خجول ، محاولة أن تبدو واثقة ، لكن الرهبة كانت لا تزال تساورها.

توجه الجميع إلى ركن هادئ داخل الهول الفسيح ليجلسوا ، وما إن استقرت إبريل في مقعدها حتى شعرت بأنامل باسم الدافئة تمسّد خصلات شعرها برقة ، فيما مال نحو أذنها هامساً بصوت خفيض : خليكي هنا .. هروح معاه وراجعلك

_طيب

راقبت ابريل خطواته وهو يبتعد ، مستشعرة حنينًا لوجوده بجانبها ، قبل أن تتحدث إلى ماغى ببسمة هادئة : هذا المكان بديع حقاً، سيدة ويلز

_شكراً عزيزتي ، ناديني ماغي ، أرجوك ، فإني لا أحب الرسمية

ردت ماغي ابتسامة دافئة تعكس روحها الودودة ، فأومأت إبريل برأسها موافقة ، لتردف ماغي بحماس ، وقد تخللت نبرتها بهجة صادقة وعاطفة متدفقة تشع من طبيعتها الرومانسية : تهنئاتنا الحارة لكم بمناسبة زواجكم

_خالص الشكر

قالتها إبريل بحبور ، بينما عيناها تتيهان في اتجاه باسم الذى يقف بجانب نيكولاس ، فأضافت ماغي بنظرة محببة : تبدين مغرمة به يا عزيزتي

تألقت عينا إبريل من الدهشة بزغت فى قولها الهامس : عفواً ماغي

أكدت ماغي بثقة : أعني أنتي وزوجك ، الحب يشع من نظراتكم لبعض

_حقاً ، أنتِ على صواب

ردت إبريل بخجل ، وقد ارتسمت على وجنتيها حمرة كزهرة نضرة تعكس جمالها ، بينما استحضر عقلها نظراته التى تُحيط بها كعناق دافئ.

_بحبه اوي

همست بعفوية في سرها ، بينما عيناها تتلألأان بوميض يشع توقًا وعشقًا يعكسان أعماق قلبها المليء بالشغف.

_تفضلوا معنا ، الوحدة جاهزة في انتظاركما.

اختتم نيكولاس حديثه بإبتسامة لبقة ، مشيراً برأسه نحو الوحدات بحماس.

☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼

دلف الجميع إلى الوحدة المزينة بأبهى الأزهار، حيث ارتسمت على وجه إبريل ملامح من الإعجاب العفوي الذي لم يكن بوسعها إخفاؤه ، حيث الجدران المطلية بلونين أبيض وبيج يشعان بالهدوء والسكينة ، وعبير الأزهار الذي يملأ الأركان برائحة منعشة تفيض النفس بالراحة.

كان المكان يتكون من غرفة نوم رئيسية تتوسطها حمام فسيح، ومطبخ مفتوح على صالة واسعة ، ومرحاض صغير يضيف لمسة من الفخامة.

قُطع هذا الهدوء نيكولاس ، الذي وقف في منتصف الصالة قائلاً بالأسبانية بنبرة تتسم بالود والإيجابية : أرجو أن ينال المكان إعجابكم

تابع يشير بيده نحو أحد الأبواب جهة اليمين : غرفة النوم من هذه الجهة

ماغى اعتلت شفتها ابتسامة مريحة وأضافت برقة : نتمنى لكم من قلوبنا إقامة ممتعة

رد باسم بامتنان : شكرًا جزيلاً

أردف نيكولاس بهدوء ، بابتسامة مرسومة على شفتيه : قبل أن أنسى ، أود أن أعلمك ، أننا سنقيم لكم غدًا حفلة صغيرة بمناسبة زفافكم ، وأعددنا لك حلة أنيقة وللعروس الجميلة ثوب زفاف رائع

أكملت ماغي الحديث ، وهي تعانق أصابع زوجها بعشق : نرجو فقط أن تكون القياسات مناسبة لأجسادكم

همست إبريل بالقرب من أذن باسم بحيرة : هما رجعوا يتكلموا إسباني تاني ليه؟ هما بيقولوا إيه؟

باسم همس بدوره : استني هفهمك

تابع باسم حديثه إليهم ، معبراً عن اعتراضه بإبتسامة هادئة : شكرًا على جهودكم ، لكن لا داعي لهذا الشيء سيد نيكولاس

أكد نيكولاس بإصرار : بلى ، نحن نود ذلك كثيرًا ، وأيضًا هذه هدية بسيطة نقدمها للعاشقين مثلكم فقط

باسم وقد بدا عليه الإرهاق ، فوافق برضوخ : حسناً ، لا بأس ، سنكون جاهزين في الغد ، إلى اللقاء

شعرت إبريل بعدم الراحة ، فرددت بفضول : هما كانوا بيقولوا لك إيه بالضبط؟

انت في الصفحة 16 من 19 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
0

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل