منوعات

رواية بقلم تقي حامد

تثائب ياسين بنعاس وهو يعتدل على الفراش، نظر حوله باحثًا عن الصغيرة فـ لم يجدها، يبدو أنها نهضت أولًا…

فرك عينيه واستعد للنهوض وبالفعل نهض وتوقف لبرهه يتمطع بكسل، وما كاد يتحرك حتى شعر بشيء لزج أسفل قدمه، وعندما حاول بقوة التحرك سقط على وجهه فـ تلطخ بسائلٍ أحمر كان موضوع بـجردل مائل على الأرض…

وعلى الفور زمجـر ياسين غاضبًا وعلم أن الأمر مقصودًا من تلك المشاكسة الصغيرة!

– چـويـــــــــريــــــــــــــة

لطمت على خديها وهرولت راكضة تجاه المرحاض وهي تراه يقترب منها بأعين تطلق شررًا ووجهه غارق بالسائل الأحمر…
هبط الدرج فـ تعرقل بخيط شفاف لم يره وكاد يسقط لكنه تماسك وفي ثانية كان هناك جردل آخر يسقط منه “ريش” أبيض اللون يتطاير في الجو ويلتصق بوجهه اللزج من الأساس فـ أصبح يشبه الدجاجة!

صك على أسنانه والغضب يتآكله..زمجـر كالأسد وهبط الدرج ركضًا وهو يصرخ بإسمها..

هرول الجميع على أثر صراخه متسائلين عن السبب، حسنًا..يبدو السبب واضحًا أمامهم تمام الوضوح خاصةً بمظهر ياسين المُضحك!

هرول ياسين تجاه المرحاض مخمنًا انها من الممكن أن تكون قد اختبأت هناك، وقبل أن يدلفه رآها تركض نحو الردهة التي يتجمع بها العائلة..فـ هرول خلفها…

اختبأت الصغيرة خلف أماني لذلك حاول ياسين الوصول لها وهو يصرخ بغيظ

– بتعملي فيا مقلب يا بت؟ بتستعبطيني!!

أخرجت رأسها من خلف أماني وقالت ببلاهة

– مش انا قولتلك مقدرش أعيش من غير مقالب؟ دا يكفي اني معملتهاش من أول ما جيت، لازم تتعود يا ياسو الموضوع كبير

زمجـر غاضبًا واستدار خلف والدته ليمسكها، فـ فرت هاربة منه وخرجت من باب المنزل وضحكاتها تصدح في المكان، وظلت تطوف وتركض بالحديقة الخاصة بالمنزل وهو يركض خلفها، وبلحظةٍ ودون أن يعلم ما حدث له تحول غضبه لمرح وبدأ يركض خلفها في نشاط، حتى أن الجميع تعجب، سرعان ما تبسموا وصدحت ضحكاتهم عندما رأوا ياسين يطرح الصغيرة أرضًا وينقض عليها يدغدغها بفمه في بطنها وهي تضحك بصخب مرح وتحاول إبعاده…
فـ انضم آسر لهم يحاول إنقاذ چويرية بمرح، فـ جذبه ياسين وبدأ يدغدغه هو الآخر وسط ضحكاتهم المرحة…
التمعت عين أماني بالدموع، ودعت الله في سرها أن يديم فرحة إبنها بإبنته بعد أن شعر أخيرًا بقيمتها الثمينة!

❀❀❀

(في المساء)

هبط ناصر من السيارة والعائلة كلها متجمعين حوله، نفخ صدره بحماس توجه لبوابة العمارة وصعد وخلفه عائلته…
دقتين على الباب وانفرج الباب وطلّت من خلفه رجاء تبتسم بترحاب وتتنحى جانبًا ليدخلوا…
وفي طريق ياسين للدخول لم يلحظ حتى من فتحت الباب فـ كان مهتمًا بـچويرية التي كانت تتشبث في كفه كأنه سيهرب منها!
جلسوا جميعًا وتحدثت رجاء

– ثواني هنادي عشق

أومـأ ناصر بسعادة، بينما عقد ياسين حاجبيه بتعجب، هذه السيدة مألوفة له!

كانت روان تحاول رؤية العريس المنتظر من خلف الستارة، فـ ضربتها والدتها على رأسها هاتفة بحنق

– بطلي بقا، روحي هاتي الشربات ودخليه على ما عشق تيجي بالجاتوه، يلا يا بت انجزي

دبدبت على الأرض بحنق وتوجهت للمطبخ، أما عشق فـ كانت في الغرفة تتآكل قلقًا، ترجو من الله ألا تكون قد تسرعت وأن يكون ناصر هو المناسب، وأنه لن يكون مثل والدها القاسي!

ربتت رجاء على كتفها بحنان عندما تيقنت ما تفكر به إبنتها، طمأنتها بـ

– متقلقيش يا عشق، مش كلهم زيه

ابتسمت عشق بإرتجاف، وارتعشت يديها بإرتباك، وتحركت مع والدتها للخارج والقلق يتآكلها

دخلت روان عليهم وهي تبتسم ببشاشة مُقدِمة الشربات، رفعت رأسها وهي تقدم الكوب الأخير لأحدهم والذي لم يكن سوى ياسين، لحظة صمت عمت المكان، فغرت روان فاهها وتذكرت فجأةً حديث شقيقتها

” ألف مد..دا حرف من إسمه!”

شهقت بخضة وارتعشت يديها فـ انسكب المشروب على ملابس ياسين الذي انتفض واقفًا يحاول نفضه من عليه، فـ توترت روان وجذبت بعض المحارم الورقية وحاولت إزالتهم …ولكن ما فعلته أنها زادت الطين بلة…
اختفت بسمة عشق ووالدتها اللتان كانتا في طريقهما للدخول عند رؤيتهم ما حدث، فـ تحدثت رجاء تُسعفهم

– خديه ع الحمام بسرعة يا روان

أومـأت روان سريعًا وأشارت له بالتقدم، فـ تحرك ورائها بهدوء….

– انت بتعمل ايه هنا؟
قالتها بحدة وهي تسير أمامه، فـ ابتسم بتهكم وصمت…
ليتآكلها الغيظ صمته القاتل لها، لوهله لم تستوعب أنه العريس المزعوم! حقًا س نفسها إن كان حدسها صحيح!

جزت على أسنانها وقالت بغيظ

– انت العريس صح؟

رفع حاجبه بتسلية وربع يديه أمامه قائلًا بإستفزاز

– ولو كنت أنا..هتعملي ايه يا أبلة؟

هـدرت بإنفعال

– رد عليا، انت العريس مش كدا؟

غمغم بتفكير لبرهة، ومن ثم قال وهو يمر داخلًا المرحاض قسرًا

– هسيبك لفضولك يآكلك كدا

دبدبت على الأرض بكعبها العالي، وعينيها تضيق بحنق!

ظلت تقضم أظافرها بقلق منتظرة خروجه لكي تفهم منه، سرعان ما سمعت أصوات زغاريد عالية فـ انعقد ما بين حاجبيها بتعجب وخرجت لتستكشف الأمر، لتتسع عينيها بصدمة عندما وجدت شقيقتها تُلبِس أحدهم خاتمًا، وتبتسم في خجل ممزوج بسعادتها…
لنكن صادقين..بالمعنى الحرفي كان فاهها يكاد يُلامس الأرض من قوو فتحها له!!!!

❀❀❀

بعد دقائـق…

خرجت الشرفة وهي ما زالت تكبت ضحكتها، سرعان ما انفجرت ضاحكة على هذا التفكير العقيم التي كانت تفكر به، لقد ظنت لوهلة أن ياسين هو العريس…
“حقًـا يالا حماقتكِ يا روان!”
هذا ما أخبرها به عقلها، فـ اتسعت بسمتها بشدة وشردت، وقبل أن تتعمق في شرودها دخل عليها ياسين وتنحنح ليخبرها بوجوده، فـ استدارت بإبتسامتها وهتفت بإحراج

– احم، سوري يا ياسو بقا..افتكرتك انت العريس

غمغم ياسين بكلماتٍ مبهمة، ومن ثم اقترب منها خطوتين وهو يضع يديه في جيبي بنطاله، هاتين الخطوتين اللتان تقدمهما كانا تقريبًا الحد الفاصل بينهما، ضيّق عينيه وهمس لها

– ولو كنت العريس..كنتي هتعملي ايه؟

سرحت في عينيه الجذابتان

– ها؟

ارتفع جانب شفتيه ببسمة صغيـرة

– شكلك واقعة يا أبلة

انتبهت على نفسها وهتفت بحدة

– ايه واقعة دي ما تحسن ملافظك يا بغل يا مـ….

كمم فمها وأردف بـجدية رافعًـا حاجبه بحذر

– قلة أدب وسفالة هديكي على وشك!

أنزل يده وابتعد عنها يقف بجوارها مستندًا بيده على السور بكل هدوء كما لو أنه لم يكمم فمها وكاد يخنقها الآن!

زفـرت بضيق واستدارت تقف بجانبه ناظرة للأمام بشرود، فـ قاطعها صوته

– والدتك حكتلنا جوا انكم بتكرهوا والدكم، هما جوا بيعرفوا السبب، اتمنى أنا اعرف السبب منك

تصنمت مكانها، وتجمدت يديها وجسدها ووجهها وتقريبًا كل ملامحها!

ابتلعت غصتها المريرة ونظرت له لبرهه تستشف الصدق من ملامحه حتى! سرعان ما وجدت ضالتها فـ تنهدت بـقوة وقصت معاناتها

– انا وعشق كنا صغيرين، كنا دايمًا بنشوف الراجل دا بيضرب أمي على أتفه الأسباب، سواء بقا عشان الأكل طلع مالح او البيت مش نضيف او غيره، ولما كبرنا شوية بقينا بنتشارك مع ماما في الضرب، علقة الصبح..علقة بليل..لحد ما اتعودنا لما يرجع يضربنا،
عقدة عشق بسببه، كانت طفلة مش فاهمة حاجة وبتتضرب وبتسكت، لكن توصل بيه القذارة انه يجيب راجل قده عشان يجوزه عشق! عايز يقبض تمنها فلوس يقدر بيها يشرب الحـشيش اللي كان بيطفحه! بالمناسبة …الحشيش كان سبب من اسباب ضربه لينا في يوم من الأيام…
لما وقفت قدامه حبسني في أوضة وكان هيجوزها غصب، لولا أمي اللي لحقت الدنيا واتصلت بالشرطة وجم أخدوه واتحبس هو واللي معاه، وطلق أمي وهو هناك وبعد عننا تمامًا وانقطعت أخباره…وخلصنا منه للأبد بس للأسف..مقدرناش نخلص من عقدة سببهالنا، وماما بعدها فتحت الحضانة بفلوس كانت محوشاها وانا روحت اشتغلت بشهادتي معاها

دموعها الغزيرة التي تغرق وجهها جعلته يرغب في ضمها والتخفيف عنها، إلا انه تحدث في النهاية

– غار في داهية..ولا تزعلي نفسك يا ست البنات!

ضحكت بخفة فـ ابتسم ياسين وتأمل وجهها الملائكي لبرهة، لتتسع بسمته شيئًا فـشيء عندما شعر بنبضات قلبه تعلو بعنف شديد!

رنّ هاتفه مقاطعًا تلك اللحظة، اختفت بسمته الودودة واستأذن منها، فـ مسحت دموعها ببطء وأومأت له، اجاب ياسين على الهاتف ليصدح صوتًا أنثويًا بالجوار

– أستاذ ياسين مدام رحاب عيزاك ضروري، وعايزة كمان بنتها، أرجوك متتأخرش دا آخر طلب للمدام دي شكلها بتوّدع والدكاترة مش عارفين يعملوا حاجة!

لم يدعها ياسين تُكمل وانطلق خارجًا من الشرفة وتلقائيًا خرجت خلفه روان بإستغراب وعلامات الإستفهام تملئ وجهها

❀❀❀

سـار في الممر المؤدي بغرفتها بخطواتٍ أشبه بالركض، وچويرية خلفه تمسك بيد روان التي أصرت القدوم معهم، اقتحم الغرفة ليجدها تستند بظهرها على ظهر الفراش وما إن رأتهم حتى تبسمت بحنان، ومن هنا ركضت چويرية تندس في أحضان والدتها قائلة

– وحشتيني اوي يا مامي

ابتسمت رحاب بألم وهتفت رغم شحوب وجهها وألمها الجسدي

– وانتي كمان يا روح مامي

ضمت الصغيرة إليها أكثر وظلت تُقبّل كل ما تطوله شفتيها، ودموعها تنسال على وجنتيها بغزارة، استعادت رباطة جأشها وابعدت الصغيرة عنها هامسة

– انا بحبك اوي يا چويرية، بحبك اوي يا حبيبتي!

التمعت الدموع في عين الصغيـرة حين علمت المخزى من كل تلك القبلات والأحضان

– وانا كمان بحبك يا مامي..بحبك اوي اوي

ضمتها إليها أكثر رغم الألم، وأغرقت الدموع ملابس الصغيرة، تنفست بقوة وهمست للصغيرة

– افتكري اني دايمًا معاكي وبصي للسما وشوفي أكتر نجمة بتلمع..هتلاقيني بعملك باي باي من وراها..تمام؟

اومـأت الصغيرة بدون التفوه بكلمة، وهبطت من الفراش ببطء ودموعها تهبط على وجنتيها كشلال لا يتوقف، ومن ثم ركضت لروان تندس بين أحضانها…

ابتسمت رحاب في وجه ياسين وأردفت بإرهاقٍ جلي

– سامحني يا ياسين، مش عايزة أموت وانا شايلة ذنب، كانت لحظة شيطان سامحني يا أبو قلب طيب!

أومـأ لها مبتسمًا بهدوء رغم النيران الضارية المشتعلة داخله

– مسامحك يا رحاب..مسامحك

تنهـدت بـراحة وأغمضت عينيها متطمئنة، وهمست له بخفوت وقد غلب صوتها نبرة التعب

– بنتي أمانة في رقبتك يا ياسين، متآخدهاش بذنبي الله يخليك..بلاش يا ياسين..بالله عليك بلاش

وبكل حب العالم الذي اكتسبه خلال فترة معاشرته لتلك الصغيرة اللطيفة قـال

– اتطمني يا رحاب، دي بنتي..استحالة أأذيها…دي حتة من قلبي..عمرك شوفتي حد بيأذي قلبه؟

ابتسمت بشحوب، ونقلت نظرها للصغيرة التي تتوسط أحضان روان وتبكي بحُرقة وتنوح بوجع، فـ ابتسمت بسمة أخيرة..حنونة..تبث داخل طفلتها الأمان..وتعدها باللقاء في الحياة الأخرى…
أغلقت جفونها..وصعدت روحها إلى بارئها..وإبتسامتها المطمئنة تزين ثغرها..فـ انطلقت صرخات الصغيرة ببكاء، وأغمض ياسين عينيه بـحزن، ونهض ببطء يسحب طفلته من بين يدي روان ويحتضنها هو..لتتشبث فيه بقوتها خشيةً من أن يتركها هو أيضًا..مثلما فعلت والدتها!

همس خافت خرج من بين شفتيها المرتجفتين قائلة بصوتٍ مبحوح متألم

– ماما ماتت، مش كدا….يا بابا!

وآه من أثر وقع تلك الكلمة على مسامعه، وكم كان يشتاق لسماع كلمة “بابا” من بين شفتي قطعة منه، وهنا شعر ياسين حقًا انه قد مَلَك الدنيا وما فيها!
فـ بلمسة طفلته وهمسها الرقيق بـ “بابا” هانت كل شدائد ياسين..وزالت غمامة سوداء غطت على قلبه منذ سنواتٍ عديدة!

انت في الصفحة 22 من 23 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
0

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل